كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس: الفلسفة والمدينة [1]

إلى روح فقيد الفلسفة في تونس محمد نجيب عبد المولى

 

ليس الحديث عن الجامعة وعن كليتنا العريقة والفلسفة والمدينة أمرا منفصلا عن موقف فلسفي وأكاديمي مُضمر نريد في البداية إعلانه رفعا لكل التباس ودرءًا لكل زيغ. فنحن مطالبون بموقف يعسر الوقوف عنده والالتزام بحده. ولما كنت أصيل هذه الكلية التي أنا مدين لها بكل شيء تقريبا، فمن عسر الأمور القول فيها وعليها دون السقوط في واحد من أمرين: إما التقريض والمدح والإطراء أو القدح وفضح من صنعوا لأنفسهم أسماء بفضل الجامعة من دون أن ينهضوا بها بل وساهموا في وأد العقلانية ونصرة الروحانية الحديثة بما يتلاءم وخيارات بعض الأحزاب المعروفة بمعارضتها للحداثة والحرية الفردية والمساواة. تلك هي الثنائية التقليدية المقيتة المميزة للثقافة العربية المنحبسة في خيارين لا ثالث لهما : أي المدح والهجاء. والحقيقة أن التمعن في معنى الجامعة يخوّل وحده الخروج من هذه الثنائية. ذلك لأن الجامعة لا تظهر إلا متى توَفَر فضاء عموميٌّ يتمتع بحد أدنى من حرية التعبير والنقد. فالفضاء الجامعي فضاء حرية ومسؤولية، وهو أمر مرتهن بمهمتها ووظيفتها. ولنا في كتاب كانط صراع الكليات دليل مفيد لمعاينة ما لكليتنا من خصوصية ووظيفة.

يميز كانط بين “الكلية العليا” التي تتضمن اللاهوت والحقوق والطب، والكلية الدنيا المتروكة إلى “عقل الشعب العالِم الخاص”  (la raison propre du peuple savant)، والتي تتضمن الآداب والرياضيات والفلسفة. تتميز الكلية الدنيا “باعتراضاتها الصارمة” (تجاه السلطة طبعا). لذلك، فإن هذه الكلية لا تخرج عن كونها “جمهورا معارضا”[2].  تتضح الآن دلالة العنوان الذي اقترحته أي الفلسفة والمدينة. فالجامعة لا تصلح لإنتاج المعرفة وتكوين النخبة فقط، بل عليها أن تتكفل بفتح الطريق أمام المجتمع لتأهيله وارشاده وتوجيهه نحو مستقبل أفضل. بهذا المعنى، تلعب النخبة دورا رياديا في المجتمع من خلال المساهمة بكتاباتها وبحوثها في تداول المعرفة واقتسامها وفي قراءة رصينة موضوعية لواقعه. فالتقسيم الذي عمد إليه كانط بين نوعين من الكليات مرتبط في الحقيقة بما للمعرفة من تبعات سياسية. فلا توجد معرفة واحدة ميتافيزيقية أو إبستمولوجية أو اجتماعية أو تأويلية ليس لها مرجعية سياسية تستَنِد إليها وتبرر نهج صلاحها. وقد كان أوغست كونت واعيا تماما بأن معارضته للميتافيزيقا ليست شأنا فلسفيا فقط، بل هي قضية سياسية تجعل الميتافيزيقيين ينتصرون بصورة آلية إلى النظام الملكي، والوضعيين ينخرطون بصورة طبيعية في النظام الديمقراطي. فتأكيد كونت على أن المهم في المعرفة هو النظام العلائقي لا ينفصل عن تصوّره للنظام السياسي الذي يبني تصوّره الجمهوري على عين ذلك النظام العلائقي المواطني رفضا للنظام الهرمي التفاضلي المميز لكل تصوّر ميتافيزيقي وروحاني.

لأجل ذلك نلاحظ أن عودة الفلسفة إلى تونس بُعَيد الاستقلال والتي كانت عن طريق قسم الفلسفة الذي دَرَّس به عدد كبير من الأعلام الفرنسيين المغضوب عليهم “لتطرفهم اليساري”، قد أثر أيما تأثير في نحت معالم توجه ساد الدراسات الفلسفية إلى حدود نهاية القرن العشرين، واتسم بغلبة الاتجاه العقلاني والوضعي على حساب الاتجاه الإيماني والروحاني.

لم تكن عودة الفلسفة في تونس إذن عن طريق البحوث في الفلسفة الإسلاميّة أو في الفكر الوضعيّ، كما حدث في جل الأقطار العربيّة. بالطبع، ثمّة لهذين التوجهين من يمثلهما عندنا في تونس، فقد كان هاجس مؤسسي الجامعة التونسية -التي نحتفل هذه السنة (2019) بستينيتها- هاجس تأهيل وليس هاجس تأصيل، بل قل إنّ إرادة التأهيل كانت سابقة على إرادة التأصيل. لذلك فقد كانت عودة التونسيين إلى الفلسفة عن طريق الأساتذة الفرنسيين وليس عن طريق الأساتذة المصريين الذين تكفلوا بترويج الفلسفة في جل الأقطار العربيّة. فكان اعلان احيائها عبارة عن ممارسة وأدها وتهجينها الإسلاموي.

عمل أوّل رئيس قسم للفلسفة في جامعة تونس سنة 1964الأستاذ جيرار دلدال Gerard Deldal  ومن بعده الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة على أن يشارك في تكوين طلبة الفلسفة التونسيين أساتذة من خيرة المفكرين في فرنسا مثل ميشال فوكو Michel Foucault   وجون فال  Jean Wahl وجيرار لوبران Gérard Lebrun وفرنسوا شاتلي François Châtelet وكلود دروفي  Claude Drevetوأنتونيا سولاز Antonia Soulez وفيليب سولاز Philippe Soulez وروني فاردونال René Verdenal وجون سبستيك Jan Sebestic وهنري فرقوط Henrie Vergote وأودات لافوكريار Odette Lafoucrièreوغيرهم. وقد عمل هؤلاء الفلاسفة على توفير شروط الاستفهام الفلسفي وترسيخ الروح النقدية في سياق الثقافة المحلية بالتركيز على عصر النهضة الأوروبية والقرن السابع عشر وعصر الأنوار والأزمنة الحديثة والمعاصرة. وكانت فاطمة حداد الشامخ، رحمها الله، هي أوّل امرأة عربيّة تتحصل على شهادة التبريز في الفلسفة من جامعة باريس، وأوّل امرأة تتولى مهمّة إدارة قسم الفلسفة على امتداد ست سنوات بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس. كان لهذه السيدة فضل كبير في تشجيع التوجّه الديكارتيّ العقلاني في تونس وتطويره، كما حثت على إعداد بحوث أكاديمية في ذلك الاتجاه. ورغم ذلك، فلا يوجد في تونس مختصون في الديكارتية فحسب، بل تكوّن في رحم الجامعة التونسية مجموعة من المختصين في الفكر السبينوزي والكانطي والهيغلي وغيرها من الفلسفات الكبرى.

مثل تعريب الفلسفة في مستوى التعليم الثانوي سنة 1976 منعرجا حاسما على مستوى تدريس الفلسفة والإنتاج الفلسفي عموما. وقد نجح الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة الذي أشرف على عملية التعريب، والمغفور له عبد الكريم المراق الذي أنجز مع مجموعة من أساتذة الفلسفة المهمة، من تلافي –ولو جزئيا- خطر الأدلجة والتعتيم التي صاحبت تلك العملية المفاجئة، وذلك من خلال اصدار كتاب الفلسفة الموجه لتلاميذ الباكالوريا، والذي لم يكن، كما أراده البعض، أسلمة لمادة تعليمية بدت خطيرة على السلطة القائمة بما تبثه من قيم حداثية ونقدية. وقد تكفل العراق الشقيق بطبع الكتاب واهدائه إلى التونسيين.

والمؤكد أن تعريب الفلسفة لم يكن منفصلا عن استراتيجية الدولة في ذلك الوقت التي عملت على مقاومة التيار اليساري من خلال تشجيع المد الإسلاموي الذي ظهر في نهاية السبعينات. وهكذاـ شجعت الدولة أنصار جمعية المحافظة على القرآن الكريم التي كانت النواة الأولى لما سمي “بالاتجاه الإسلامي” في تونس. ومع تعريب الفلسفة وقع إدماج أساتذة التفكير الإسلامي الذين كان معظمهم حاملا لشهادة من جامعات شرقية، لا علم لهم بالفلسفة الغربية ولا بتاريخها. كما وقع ادماج عدد هائل من حاملي الإجازة في الفلسفة والذين تكونوا في الشرق. وقع إدماج هؤلاء في اتجاه استراتيجية الأسلمة التي بدأت تدب في درس الفلسفة. والحقيقة، أنه نتج عن مغادرة الأساتذة الفرنسيين تقهقر واضح لمحتوى درس الفلسفة وحدٌ من مدى تأثيره الإيجابي المتمثل في الملكة النقدية والانفتاح على أمهات النصوص الفلسفية العالمية. صاحبت ذلك تَوْنَسَةٌ كاملة للتعليم الثانوي. فغادر عدد كبير من المدرسين الفرنسيين المتعاقدين تونس، وتغيرت البرامج التعليمية والنصوص البيداغوجية، فحذفت حصص النقاشات من دروس اللغة الفرنسية. وفي السنوات التي تسبق الباكالوريا، عوضت قضايا العنصرية والهجرة، قضايا الأنوار والوجودية. وتم تعريب مواد الجغرافيا والعلوم الطبيعة والرياضيات. فضَعُف مستوى التلاميذ المعرفي في اللغتين، لاسيما بعدما تراجع دور مكتبة المعهد التي أغلقت في عديد المعاهد وصارت مكتبات الأقسام نسيا منسيا. لم يكن هذا التراجع منفصلا عن قرار وزارة التربية منع مديري المعاهد شراء الكتب وتكليف الوزارة بالقيام بذلك. طبعا، كان لانتشار ثقافة الصورة دور كبير في تردي مستوى التلاميذ الثقافي وعزوفهم عن القراءة. وهي ظاهرة عالمية صاحبتها إرادة تقليص ميزانية التعليم في جميع انحاء العالم.

غير أن من فضائل تعريب الفلسفة في الأقسام النهائية ثم في الجامعة، ظهور أولى الكتابات الفلسفية المحررة باللغة العربية في تونس (باستثناء كتابات عبد العزيز الثعالبي ومحجوب بن ميلاد الذي كان أول من درس الفلسفة باللغة العربية في تونس)، وكذلك بعض الترجمات المتنوعة. غير أن هذا الإنتاج الفلسفي لم يشهد تطوّرا تصاعديا إلا بعدما تبنى قسم الفلسفة بالجامعة التونسية اللغة العربية باعتبارها لغة تدريس وتحرير المذكرات والاطروحات.

وقد مثلت ترجمة نصوص الفلسفة الغربية عملا أساسيّا ضمن التعبير عنها باللغة العربيّة، ومشاركة في الحوار الفلسفي الكونيّ الذي لا نزال غائبين عنه لانحباسنا القاتم في قضايا التأصيل والهوية، ومعارضتنا بين الأصالة والحداثة معارضة الحق بالباطل. لذلك، فنادرا ما تجد من بين المتفلسفة في تونس من بقي مهووسا بفلسفة واحدة ومهتما بفيلسوف غربي حديث دون العودة، من جهة أخرى، إلى فيلسوف عربي قديم، والعكس بالعكس. فقد كتب محجوب بن ميلاد عن ابن خلدون وعن برغسون، واهتمت فاطمة حداد بسبينوزا وابن رشد، وكتب عبد المجيد الغنوشي عن ابن رشد والفارابي وعن ديكارت، واختص حمادي بن جاب الله في فلسفة كانط، وكتب أطروحة عن ديكارت وغاليلي ونيوطن، لكنه ترجم هنري بوانكاري كما كتب عن ابن رشد. واختص علي الشنوفي في فلسفة سبينوزا واهتم بابن رشد أيضا. أما فتحي التريكي، فبعد دراسته لمعنى الحرب في الفلسفة، كتب أطروحة عن “العقل التاريخي العربي” واهتم بفوكو وداريدا وفلاسفة الحداثة عموما. واصل جلال الدين سعيد العمل في اتجاه المنحى السبينوزي الذي دشنته فاطمة حداد وأصله علي الشنوفي، فكتب عن سبينوزا وترجم معظم مؤلفاته، لكنه من جهة أخرى، نقّب في فلسفة الابيقوريين وكتب عن فلسفتهم. كذلك الشأن بالنسبة لصالح مصباح الذي واصل العمل في التقليد السبينوزي التونسي فاهتم بسبينوزا وهوبز، لكنه انتبه إلى مشاكل الفلسفة الحديثة العربيّة والأوروبية فكانت له فيها وجهة نظر لافته ومميزة.

عمد أبو يعرب المرزقي من جهته، بعد دراسته لأرسطو وابن تيمية وابن خلدون، إلى الكتابة في مسألة العقلانية وترجم كواين Quine وبيار دوهام Pierre Duhem إلى العربية. كما أن محمد محجوب قد درس أفلاطون من زاوية نظر هيدغريّة وعمد إلى تطوير معرفته لشتى المدارس التأويليّة الحديثة، لكنه كتب عن الفارابي وترجم نصوص روسو وهيوم ومرلو بونتي. أما عمر الشارني فقد اهتم بالفلسفة الحديثة وكتب حول بوفون Buffonثم ترجم ديكارت وعمل على تطوير موقف من الفارابي لينقل، بعد ذلك، معظم نصوص الفارابي الى اللغة الفرنسية.  وقد اشتغلت زينب الشارني على فلسفة أوغست كونت واهتمت بفكر الطاهر الحداد ونضاله وعمل فتحي المسكيني على ترجمة هيدغر بعدما درس الفلاسفة المحدثين وجادل ابن باجة وابن رشد وابن خلدون، ونقل محمد بن ساسي كانغيلام Georges Guanguilhem  إلى اللغة العربيّة، واختص في تاريخ العلوم العربيّة. كما تمكن معز المديوني من التخصص في فلسفة أغسطينوس وترجم لحنا أرنت وجاك دريدا. وسعى ناجي العونلي من ناحيته إلى تقديم فينومينولوجيا الروح ونصوص أخرى لهيغل بلسان عربي، كما ترجم نصوص رولان بارت وبتر سلوتردايك وثيودور أدرنو. وقد عمد عبد العزيز العيادي المختص في فلسفة مرلو بونتي إلى ترجمة نصوصه ونصوص ميشال فوكو وجاك دريدا وجيورجيو أغامبن وغيرها من النصوص. وسعيت بدوري في مرحلة أولى إلى ترجمة غاستون باشلار وفي مرحلة ثانية لايبنتز مهتما بفلسفة ابن رشد والرشديين.

ولكن، وإن كانت الترجمة عملا أساسيا لتوطين الفلسفة في ربوعنا، فإن تدريسها بالعربية كان، في الآن نفسه، رحمة ونقمة. هي رحمة لأن الأجيال المتعاقبة من المتفلسفة التونسيين قد عملوا على الحضور الأكاديمي والاجتماعي من خلال الانخراط في شتى المجموعات الجمعياتية. فلعبت الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية التي تأسست سنة 1979، دورا رياديا في نشر الفكر الفلسفي لم يقع تقييمه إلى حد الآن. وعملت في فترتها الأولى على الربط بين التعليم الثانوي والتعليم العالي. نأسف أنها أصبحت اليوم عبارة عن ناد ضيق يضم بعض الأنفار، فبقيت بنفس الرئاسة منذ أكثر من ثلاثين سنة !

لعبت الجمعية التونسية للجمالية والانشائية بدورها دورا رياديا من خلال منشوراتها وملتقياتها التي تجمع باحثين من الفلسفة ومن شتى الاختصاصية الجمالية والفنية. ولا يزال اشعاعها فاعلا إلى حد اليوم. لعل السر في ذلك كامن في تجدد هيئتها المديرة وتجدد الرئاسة ثلاث مرات متتالية. وقد عرفت الأستاذة رشيدة التريكي متى تنسحب من الرئاسة رغم الإجماع العام المحلي والدولي حول شخصها. أما جمعية مواقع فقد نشرت بعض الأعداد من مجلتها، ولم تنظم نشاطا يذكر. وترأست المرحومة فاطمة حداد الجمعية التونسية للدراسات حول القرن 17 التي اندثرت مع رحيل أستاذتنا الجليلة.

ومنذ سنة 2000 ظهرت بكليتنا مجموعة من وحدات البحث ومخبر للفلسفة، تمكنتُ من تقديم نشاطاتها خلال يوم دراسي نظمه مخبر الفيلاب واشرفت على إنجازه يوم 20 فيفري 2009 بمناسبة مرور خمسين سنة على بعث كليتنا. وكان هذا اللقاء بدار الكتب الوطنية تحت عنوان راهنية الفلسفة في تونس.

شاركت في هذا اللقاء المجموعات التالية

  • الإطار البيداغوجي المتكوّن من متفقدي مادة الفلسفة في التعليم الثانوي لاسيما الأستاذ نجيب عبد المولى رجمه الله والأستاذ عادل حداد والأستاذ خميس بوعلي.
  • وحدة البحث نشأة التجريبية المنطقية برئاسة مليكة الولباني.
  • وحدة البحث الأنوار والحداثة برئاسة عبد العزيز لبيب.
  • وحدة البحث الفلسفة والعلم برئاسة عبد القادر بشتة.
  • وحدة البحث الفينومنولوجيا التأويلية برئاسة محمد محجوب.
  • مخبر الفلسفة الفيلاب برئاسة فتحي التريكي.

والحقيقة، ودون استنقاص للدور الذي لعبته مختلف وحدات البحث، فإن الدور الذي لعبه مخبر الفيلاب الذي أسسه فتحي التريكي، قد كان رياديا في تجميع الطاقات الفلسفية في تونس. فكان تنظيمه لملتقيات دولية رفيعة المستوى دوريا، عمل خلالها على التعاقد مع جامعة الزقازيق بمصر وبعض الجامعات الجزائرية (فكانت مساندة الفيلاب للأخوة الجزائريين لافتة). كما تعاقد المخبر مع جامعات أوروبية مثل جامعة بريمن وجامعة باريس 8 وجامعة مدريد. وتُوِّجدت جميع هذه التعاقدات بأعمال فكرية نشرت في تونس وأوروبا. نشر الفيلاب أيضا عددا من الرسائل الجامعية وشجع على البحث وتنظيم الملتقيات الدولية والوطنية.

ظهرت بعد ذلك وحدات بحث واندثرت أخرى، فكانت الوحدة التي بعثتها مليكة الولباني حول نشأة التجريبية المنطقية أكثر الوحدات انتاجا ومثابرة وربطا بالبحث الأكاديمي العالمي. اندثرت وحدات بحث اخرى مثل “التفكير في المعقولية اليوم” (حميد بن عزيزة)، ووحدة البحث في “تاريخ الفلسفة والعلوم العربية” (مقداد منسية) ووحدة البحث “الفلسفة والعلم” (عبد القادر بشته). وبصورة عامة، يمكن اعتبار إضافة كليتنا أساسية في مجال البحوث الفلسفية. تمثلت في تنوّع التكوين والإنتاج، خاصة فيما يتعلق بالجيل الأول والثاني من المتفلسفة في تونس. اعتبار أن الجيل الأول يتضمن محجوب بن ميلاد والحبيب الفقيه وفاطمة حداد وعبد المجيد الغنوشي ومحمد قشيش وعلي الشنوفي وفتحي التريكي ورشيدة بوبكر التريكي وتوفيق الشريف وحمادي بن جاب الله ومحمد محجوب ومليكة ولباني وسلوى الشطي وعبد القادر بشته والحبيب المرزوقي ومحمد على الحلواني ومقداد عرفة وحميد بن عزيزة وحاتم الزغل وعلي رضا الشنوفي وعمر الشارني وزينب الشارني وجلال الذين سعيد، ونبيهه قارة ورجاة العتيري.
والملاحظ أنه بالنسبة لهذا الجيل،  كان هاجس التأهيل أساسيا في تدريسه وانتاجه العلمي.

أما الجيل الثاني من المتفلسفة الذين تكونوا في كليتنا، فمن أبرز أعلامه فتحي المسكيني وصالح مصباح ويوسف بن أحمد وعبد العزيز العيادي وخديجة الكسوري ومحمد بن ساسي وعبد العزيز لبيب ومنيرة بن مصطفى وناجي العونلي  ومحسن الزارعي والحبيب الجربي ومصطفى كمال فرحات ومنير كشو ومحمد التركي  وعثمان العمدوني وأم الزين بن شيخة وياسمينة الغضبان والطاهر بن قيزة.
تميز هذا الجيل بتناوله لشتى المسائل الفلسفية مع غلبة واضحة للاتجاه العقلاني والتنويري.  والملاحظ أن عددا من الأسماء المذكورة مثل عبد العزيز العيادي وناجي العونلي ومحسن الزارعي والحبيب الجربي لا تنتمي إلى كلية 9 أفريل، لكن هؤلاء المتفلسفة تكونوا في كليتنا. لذلك يعسر الفصل بين الانتاج الفلسفي في شتى أقسام الفلسفة في الكليات المختلفة وما أنتجته كليتنا. فقط، يمكن الإشارة إلى أن الاهتمامات الفلسفية في شتى اقسام الفلسفة تحددت، بصورة أو بأخرى، من خلال التوجهات العامة التي اتخذها قسم الفلسفة في 9 أفريل، وذلك إلى حدود نهاية القرن الماضي.

وتجدر الملاحظة أنه مند بداية سنة 1999، وهو تاريخ بعث المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس الذي ترأسه الأستاذ محمد محجوب، والذي تضمن قسما للفلسفة غلب على معظم فريقه تكوين آكاديمي هوس التوجه التأويلي والهرمنطيقي. كما نلاحظ غلبة نفس التوجه في قسم الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالقيروان الذي كان لمحمد محجوب فضيلة بعثه حين كان كاتبها العام ثم عميدها. وقد اختار قسم الفلسفة في القيروان التدريس باللغة العربية والتخلي على مع اللغة الفرنسية التي كانت لغة التدريس في قسم الفلسفة بتونس.  أدى ذلك، بصورة تدريجية، إلى نوع من القطيعة بين الجامعة التونسية والجامعات الأوروبية لاسيما الفرنسية منها.

معلوم أن خيار التدريس باللغة العربية دون غيرها هو خيار ميّز توجه قسم الفلسفة في القيروان منذ انبعاثه. طبعا، لإشعاع بعض الأساتذة الذين تحملوا مسؤوليات إدارية تأثير على توجه البحوث الفلسفية مما يُبوّئ هؤلاء إلى تأطير أبرز الطلبة. وبحكم موقعهم العلمي والإداري فهم فاعلون في لجان الانتداب والترقية. وهكذا، يكاد يكون جميع الأساتذة المنتدبون في قسم الفلسفة في القيروان وفي المعهد العالي للعلوم الإنسانية ممن تتلمذوا أو أُطروا من قبل الأستاذ محمد محجوب أو ممن جلبهم الأستاذ محجوب من مواقع أخرى إلى المركز الذي يعمل به. بفضل كل ذلك، تكونت في تونس مدرسة تأويلية لها شأن وموقع في الثقافة العربية. ولها أعلام لامعون مثل محمد محجوب ويوسف بن أحمد وفتحي المسكيني وعبد العزيز العيادي وفتحي انقزو ومحسن الزارعي وغيرهم.

وعلى نقيض هذا التوجه العروبي، فأن البحوث الفلسفية في اتجاه التجريبية المنطقية الذي تزعمت ريادته الأستاذة مليكة الولباني قد عمل على المحافظة على الرابطة التي تجمع بين الجامعة التونسية والجامعات الأوروبية، وذلك من خلال القيام بملتقيات وأيام دراسية واعداد اطروحات باللغة الفرنسية مع الحرص على الإشراف المزدوج التونسي-الفرنسي، كلما سمح مستوى الطلبة بذلك. والملاحظ أن الأستاذة مليكة الولباني رغم شغفها النظري بتدعيم الفلسفة التحليلية في تونس كانت حاضرة بدورها في عدد كبير من لجان الانتداب دون أن تكون لها مسؤولية إدارية تنفيذية.

نفس هذا التوجه في الإشراف المزدوج وعلى إرادة التأصيل دون التقليل من أهمية التأهيل، قد وجد في المجموعة التي أشرفت عليها الأستاذة رشيدة التريكي التي أثبتت وجودها العلمي من خلال منشوراتها في تونس وفي فرنسا. غير أنها سعت أيضا من خلال جمعية الجمالية والانشائية التي ترأستها، ومن خلال نشاطها في مخبر الفيلاب وقسم الفلسفة في كليتنا على تكوين جيل من الباحثين الذي بدأوا يبرزون في مجال الإستتيقا والتدريس.

وقد كان بإمكان التوجه الإبستمولوجي والعقلاني أن يترك أثرا مستداما بفضل اشعاع أساتذة مثل حمادي بن جاء بالله وحميد بن عزيزة وعبد القادر بشتة وزينب الشارني ونور الدين النيفر وعبد الكريم العبيدي والطاهر بن قيزة، إلا أن هذه المجموعة لم تنجح في تكوين مجموعة علمية متناسقة ومكونة لجيل يأخذ المشعل ويطور البحوث الإبستمولوجية، وذلك رغم كفاءة بعض عناصرها العالية واشعاعهم الوطني والدولي.

ويمكن تأكيد القول نفسه فيما يتعلق بالدراسات الأخلاقية والسياسة. طبعا يبقى عمل جلال الدين سعيد حول سبينوزا وترجمته لمعظم آثاره رائدا، دعّم المدرسة السبينوزية في تونس. وهي مدرسة بدأت مع فاطمة حداد وعلي الشنوفي وصالح مصباح، نأمل أن تستمر بعدهم. وما قيل عن التوجه الإبستمولوجي يحق على الدراسات الأخلاقية والسياسية. فإشعاع علي رضا الشنوفي وصالح مصباح ومنير كشو وسمية المستيري لا ريب فيه، ولكن يعسر الحديث عن توجه ومدرسة للبحوث السياسية والأخلاقية تونسيين.

القول نفسه يحق على الدراسات في الفلسفة الإسلامية التي تداول على تدريسها شخصيات هامة مثل محجوب بن ميلاد والحبيب الفقيه ومقداد عرفة منسية والحبيب المرزوقي[3] ومحمد علي الحلواني وحاتم الزغل من غير أن تنجح في تقديم جيل هام من المختصين في الفلسفة العربية والإسلامية، فتترك أثرا يتجاوز الأشخاص الفاعلين.

ملخص القول: يتراءى لنا أن الفلسفة المعاصرة في تونس، بانهمامها بمشاكل التأويل والتحليل والعقلانية والإستتيقا والسياسة لم تنجح إلا في اثبات مدرستين أساسيتين: وهما المدرسة التأويلية والمدرسة التحليلية. والسر في ذلك أنه مهما كانت طبيعة البحوث الفكرية التي نتناولها، فإن الفلسفة لا تخرج عن واحدة من مسألتين: مسألة الدين ومسألة العلم. وفي كلا الحالتين، فإن اختيارنا التخصص في مجال التأويل أو الإبستمولوجيا أو الإستتيقا أو تاريخ الفلسفة، اختيار سياسي. قد لا تظهر ملامحه بصورة مباشرة وفجة، لكنها تتضح من خلال النقد والتمحيص والتدقيق. غير أن الخيط الرابط بين جميع هذه الاختصاصات المعاصرة يندرج ضمن ما سمي “بالمنعرج اللغوي” الذي ظهر، في الآن نسفه، مع فتغنشطاين وهيدغر، وكانت له تبعات على الإبستمولوجيا والإستتيقا والفلسفة السياسية.

فالمدافعون عن الفلسفات التأويلية والهرمنوطيقية يرون أن مفكرا مثل هيدغر قد كان رائدا لما سماه فتحي المسكيني “نقد العقل التأويلي”. غير أن لأقطاب هذا المنحى الفلسفي في تونس ميولات عقائدية تقربهم من الوضع الإشكالي الذي تجد البسيكولوجيا فيه نفسها. وهو وضع نبه إليه جورج كانغيلام بقوله: ” حين نخرج من السربون من نهج سان جاك، يمكننا أن نصعد أو ننزل، فلو سرنا صاعدين، فإننا نقترب من البنتيون Panthéonالحافظ لبعض العظماء من الرجال، ولكن لو سرنا نازلين، فإننا نتجه نحو مركز الشرطة”[4].   لذلك، تجد من بين الهيدغريين التونسيين مَن “يبتسم” للإسلاميين، فيحشر كلمة الإسلام في خطاب لا علاقة له ظاهريا بالدين أو يقبل القول بإمكانية وجود “حداثة إسلامية مغايرة للحداثة الغربية”[5] بالنسبة إلى “الإنسان المسلم” أو أن يؤلف كتابا بعنوان: “الإسلام فلسفة أخيرة[6]. ولعمري، في مثل هذه الاستطرادات خلط خطير بين الفلسفة والإيديولوجيا وبين الطموح الأكاديمي والطموح السياسي.

أما التوجه الثاني، الذي سجل نفسه في سياق المنعرج اللغوي والذي ظهر في المدرسة التحليلية المنطقية كما ظهر عند المهتمين بالشأن الإبستمولوجي أو برهانات العقلانية والمشاغل الجمالية والسياسية والأخلاقية، فقد حافظ على انفتاح الفلسفة على اللغات الأجنبية ودافع من خلال الندوات والملتقيات عن التوجه العقلاني المنفتح.

طبعا، لا يتعلق الأمر هاهنا بالحكم على رداءة توجه وامتياز توجه آخر، بل بتقييم تصوّر يخوّل فهم ما أصاب الفلسفة في تونس من اهتزاز جعل مريديها من طلبة وباحثين يفتقدون لأبسط مقومات التكوين السليم والمنهج القويم.

لا بد في هذا الشأن من الإشارة إلى أن التقهقر في بلادنا قد أصاب التعليم بصورة عامة، وأن المعضلة تتجاوز مجرد الاختيار الوطني. فثمة ثقافة استهلاكية فرضتها العولمة وصاحبتها ثورة رقمية غيرت التوجهات الثقافية، ونوعية الثقافة ذاتها التي صارت فرجوية وتبسيطية إلى حد السذاجة.  غير أنه من الواضح أن غلبة التوجه العلمي في مستوى التعليم الثانوي قد جعل التلاميذ المتوجهين إلى اقسام الآداب أضعف ما يوجد على مستوى التكوين والكفاءة. زد على ذلك، يوضح تحقيق قمنا به منذ بضع سنوات، أن الطلبة الموجهين إلى قسم الفلسفة -ما عدا بعض الاستثناءات-هم أضعف الناجحين في الباكالوريا، وأغلبهم لم يختر هذه الشعبة، ونسبة من اختاروا الفلسفة لا تتجاوز %30. تلك إذن أسباب موضوعية أثرت في تكوين طلبتنا وجعلتهم، مع نظام أمد (السداسيات)، عاجزين تماما على قراءة النصوص الفلسفية الأساسية الضرورية لتكوين أستاذ فلسفة. علاوة على ذلك، فالتدريس باللغة العربية فقط –وهي اللغة القومية التي لا نقاش في التدريس بها- جعل الطلبة عاجزين عن تناول المؤلفات الأساسية في الفلسفة خاصة حين نعلم ميل الطلبة والأساتذة في آن، إلى البحث والنشر في مواضيع تتعلق بالفلاسفة المعاصرين. لذلك، فأنت تجد اليوم من بين أساتذة الفلسفة الجامعيين الشبان من لا يتقن اللغة الفرنسية ولا الإنجليزية، ولا يقرأ ما كتب وما يكتب فيها. فما بالك بطلبتهم الذين غالبا ما كانت معرفتهم باللغات الحية، بل بالعربية نفسها، رديئة إلى حد كبير. طبعا، ليس العيب في اللغة ذاتها. فلم يكن ابن رشد يعرف اللغة الإغريقية، ورغم ذلك صار علما من أهم اعلام الفلسفة العربية، ولم يكن الطاهر الحداد عارفا بلغة فولتار، ورغم ذلك، يعتبر الحداد من أهم المفكرين الحداثيين في تونس المعاصرة. عيب تكوين طلبة الفلسفة اليوم هو ارتماؤهم في أحضان الفكر الروحاني الذي يتزعمه مارتين هيدغر وأتباعه في تونس واقتصارهم على دراسة الفلسفات المعاصرة وحدها متجاهلين فلسفات التنوير من ابن رشد إلى هيغل. فالقضية لا تنحصر في بعدها الفكري والفلسفي بل تتعدى ذلك الى البعد المؤسس لكل قول فلسفي والمشرع لكل وجاهة نقدية: إنه البعد السياسي.

******

[1] قدمت هذه المداخلة بمناسبة الاحتفاء بستينية كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.

[2] Emmanuel Kant, Le conflit des facultés, Paris, Vrin, 1988 (4e édition), les pages 15-17.

[3]  وهو ينشر باسم أبو يعرب المرزوقي، والملاحظ أنه إذا كان محمد علي الحلواني قد ترشح ضد بن علي زمن الاستبداد، فإن المرزوقي قد ترشح للمجلس التأسيسي واستقال منه ضمن قائمة حركة النهضة المعروفة بتوجهها الإسلاموي الأخواني.

[4] Canguilhem, Conférence, prononcée au Collège philosophique le 18 Décembre 1956 et publiée dans la Revue de Métaphysique et de Morale, 1958, n° 1, 12 – 25 « quand on sort de la Sorbonne par la rue Saint-Jacques, on peut monter ou descendre; si l’on va en montant, on se rapproche du Panthéon qui est le Conservatoire de quelques grands hommes, mais si l’on va en descendant on se dirige sûrement vers la Préfecture de Police. »

[5]  فتحي المسكيني، جريدة  السفير، 13 جوان 2016.

[6]  بلغيث عون، الإسلام، فلسفة أخيرة: الله اليوم الآخر بترجمة راهنة،  منشورات ضفاف ، 2012.

قد يعجبك ايضا مشاركات هذا المؤلف

أضف تعليق

Share This