الذّاكرة
مقدمة:
يقصد بالذاكرة تلك العمليات الذهنية التي يقوم بها البشر بالإضافة إلى كائنات أخرى بتشفير أو ترميز المعلومات وتخزينها واستردادها أيضاً. يمثل التشفير أو الترميز أولى عمليات الإدراك وتسجيل المعلومات، في حين أن حفظها وبقائها مع مرور الزمن هوما يعرف بالتخزين. أما عملية الاسترداد فتتمثل في استخدام تلك المعلومات المخزنة مسبقاً. فحالما يقوم شخص أو مجموعة من الناس باستدعاء تجربة ما من ذاكراتهم فإن ذلك يعني بالضرورة أنهم قاموا بتشفير وتخزين ومن ثم استرداد معلومات متعلقة بتجربتهم تلك. وبالمقابل فإن إخفاق الذاكرة (كنسيان إحدى الحقائق الهامة على سبيل المثال) يعكس إخفاقاً في إحدى هذه المراحل من عمل الذاكرة.
الذاكرة خاصية ذات أهمية قصوى بالنسبة للبشر وسائر الكائنات الحية الأخرى، حيث تعتمد جميع نشاطاتنا اليومية عملياً (من كلام واستيعاب وقراءة واجتماع بالآخرين …إلخ) على كوننا قد تعلمنا وخزنا مسبقاً معلومات عن محيطنا. تتيح لنا الذاكرة استرجاع أحداث من الماضي البعيد أو منذ لحظات خلت. كما وتتيح لنا إمكانية تعلم مهارات جديدة وتكوين عادات. ومن دون هذه القدرة على استحضار معلومات أو خبرات سابقة لن نكون بحال من الأحوال قادرين على استيعاب لغة التواصل أو التعرف على أصدقائنا وأفراد أسرتنا، كما وسنعجز عن إيجاد طريقنا إلى المنزل أو حتى عن ربط عقد أحذيتنا. ستكون الحياة في تلك الحالة سلسلة من التجارب غير المترابطة، غير المألوفة والجديدة تماماً. وفي حال انتفى أي أثر للذاكرة، فإن البشرية جمعاء ستفنى في وقت قريب.
لقد عبر علماء نفس كثر وفلاسفة وكتاب ومفكرون آخرون منذ وقت طويل عن ولعهم بموضوع الذاكرة، ومن بين أسئلتهم:
_ كيف يقوم الدماغ بتخزين المعلومات؟
_ لماذا يتذكر الناس معلومات معينة ولا يفعلون مع غيرها؟
_ ما هي سعة الذاكرة؟
_ هل بإمكان الناس تحسين قدرتهم على التذكر؟
هذا بالإضافة إلى كون الذاكرة في كثير من الأحيان موضع سجال بسبب من الأسئلة حول مدى دقتها. فيمكن مثلاً أن تلعب ذاكرة شاهد عيان لجريمة ما دوراً كبيراً في إقرار جريمة أو براءة المتهم. على كل حال، يجمع علماء النفس على عدم تذكر الناس دائما للأحداث كما وقعت بالضبط، كما ويقوم الناس أحياناً باستدعاء ذكريات لم تحدث أبداً.
في الحقيقة هناك تشابه كبير بين كل من عمليتي التذكر والتعلم وغالباً ما يتم استخدام أي من المصطلحين للدلالة على كلا العمليتين. يستخدم مصطلح التعلم عادة للتعبير عن عمليات الاكتساب الأولى أو تشفير المعلومات، بينما يعبر مصطلح الذاكرة عن عمليات لاحقة تتمثل في تخزين واسترداد المعلومات. على كل حال فهذا التمييز ليس بالملزم أو مالا يمكن تخطيه فلا يمكننا الادعاء بالتعلم قبل أن نكون قادرين على استرداد هذه المعلومات لاحقاً؛ كما ولا يصبح استرداد المعلومات ممكناً قبل تعلمها. وبناء على ذلك غالباً ما يشير علماء النفس إلى عملية التذكر/ التعلم على أنها تلك التي تشمل المظاهر الثلاثة لسير المعلومات من تشفير إلى تخزين واسترداد.
فنان الذّاكرة:
تكشف لوحات فرانكو ماغناني وهو رسام من سان فرانسيسكو عن ذاكرة متميزة فيما يخص قريته ومسرح طفولته في بونتيتو، إيطاليا. وهنا (في الأعلى) إحدى تلك اللوحات التي تصور بونتيتو في مقابل صورة فوتوغرافية حقيقية للقرية (في الأسفل). غادر ماغناني القرية في عام 1958 بينما كان في أواسط العشرينات من عمره، وبعد ذلك التاريخ بثماني سنوات وفي ظل حالة مرضية ذات شأن بدأ سلسلة من الأحلام عن بونتفيتو بتفاصيل دقيقة وواضحة بشكل مثير للانتباه. بعد ذلك سرعان ما صارت تأتي الصور إلى ذهنه أثناء النهار ضمن حالة من الهلوسة الذهنية. لقد شرع يرسم مشاهد مختلفة من القرية باعتماد كلي على الذاكرة وعلى تلك الومضات الذهنية. برغم ما تظهره بعض أعماله من دقة ومطابقة للواقع أقرب لأن تكون فوتوغرافية إلا أن كثيراً من أعماله الأخرى تحوي تخطياً وتجاوزاً للنمط الفوتوغرافي يسهم في تصوير القرية بأضواء مبهجة.
شكل (1)
أنواع للذاكرة:
على الرغم من أن اللغة الإنكليزية تستخدم كلمة واحدة للذاكرة، إلا أن هناك حقيقةً أنواعاً مختلفة. تميز معظم النماذج النظرية للذاكرة ثلاث أنواع رئيسية تحوي بدورها تقسيمات أخرى:
- الذاكرة الحسية (المبدئية التي تسجل ما تلتقطه الحواس)
- الذاكرة العاملة (الذاكرة قصيرة الأمد)
- الذاكرة طويلة الأمد.
نموذج مبسط للذاكرة:
نرى كما يوضح هذا النموذج لمعالجة المعلومات في الذاكرة أن المعلومات التي تدخل الدماغ تخزن بشكل مؤقت في الذاكرة الحسية وفي حال تم التركيز على هذه المعلومات تنتقل إلى الذاكرة العاملة (تعرف أيضاً بالذاكرة قصيرة الأمد) حيث يتم معالجتها واستخدامها. يرجح انتقال المعلومات بعد ذلك (إلا في حالات استثنائية) عبر تقنيات التخزين كالتكرار والاسترجاع إلى الذاكرة طويلة الأمد. إن استعادة المعلومات التي جرى تخزينها في الذاكرة طويلة الأمد يجعلها نشطة أيضاً في الذاكرة العاملة.
شكل (2)
A. الذاكرة الحسية:
يشير المصطلح إلى التسجيل اللحظي الأولي للمعلومات في نظام حواسنا. فعندما تتنبه حاسة الإبصار عندنا بفعل شيءٍ تقع عليه عيوننا فإن إحساساً بذلك يدوم فترة قصيرة في نظامنا البصري. إن هذا النوع من الذاكرة الحسية يدعى بالذاكرة الأيقونية ويشير إلى ما يكون عادة مجرد ديمومة قصيرة لمعلومات بصرية بعد استقبالها وتفسيرها من قبل النظام البصري.
يطلق مصطلح الذاكرة الصوتية على نفس الظاهرة في نظامنا السمعي: الصدى القصير الذي يتشكل عقب سماع صوت ما (معلومات ذات طبيعة صوتية). يفترض وجود أنظمة أخرى بحكم وجود أنظمة حسية أخرى (اللمس، الذوق، الشم) لكنها لم تحظ بالقدر ذاته من الدراسة من قبل الباحثين.
قام عالم النفس الأمريكي جورج سبيرلنغ بإثبات وجود الذاكرة الحسية بواسطة تجربة أجراها عام 1960. أجرى سبيرلنغ التجربة على مجموعة من الناس وطلب منهم النظر إلى لوحة بيضاء ثم قام بتسليط شعاع ضوئي أظهر مجموعة متناسقة الترتيب من 12 حرفاً من الأبجدية الإنكليزية على تلك الشاشة وذلك خلال 1/20 جزء من الثانية. انظر الشكل (3).
شكل (3)
بعد ذلك طلب من هؤلاء الناس أن يقوموا بتذكر أكبر عدد ممكن من تلك الأحرف. تمكن معظم هؤلاء من تذكر ما لا يزيد عن أربعة أو خمسة أحرف بشكل صحيح. طبعاً كان هؤلاء على يقين بأنهم شاهدوا حروفاً أكثر إلا أنهم كانوا غير قادرين على تسميتهم. وضع ستيرلنغ فرضية مفادها أنه قد تم بالفعل تسجيل كامل مجموعة الأحرف في الذاكرة الحسية لزمن قصير جداً إلا أنها سرعان ما اضمحلت. لاختبار هذه الفكرة أجرى تجربة أخرى قام بإصدار نغمة ما مباشرةً بعد إظهار صورة الأحرف على الشاشة. أدى إصدار نغمة ذات نبرة عالية إلى سرد هؤلاء الناس للأحرف في الصف الأعلى في حين أدى إصدار نغمة ذات نبرة متوسطة إلى سرد أحرف الصف الأوسط وذات نبرة منخفضة إلى سرد الأحرف في الصف الأسفل. وجد سبيرلنغ بأن هؤلاء اللذين خضعوا للتجربة استطاعوا في معظم الأحيان استدعاء الأحرف كصفوف وسردها بدقة. حدث ذلك أياً كانت الصفوف تلك (والتي تم سردها بإيحاء نغمة الصوت) وبناءً عليه فإن كل تلك الأحرف كانت موجودة في الذاكرة أثناء لحظةٍ ما.
تعمل أنظمة الذاكرة الحسية بشكلٍ لا واعي وتخزن المعلومات لوقت قصير فقط. يبدو* أن الذاكرة الأيقونية (البصرية) تدوم أقل من ثانية في حين قد تدوم الذاكرة الصوتية أكثر من ذلك بقليل، إذ تتراوح التقديرات بين ثلاث إلى أربع ثوانٍ. هذا وتستبدل عادة المعلومة الحسية التي تأتي لاحقا ً سابقتها. فعلى سبيل المثال عندما ننقل بصرنا إلى شيءٍ آخر فإن مادة بصرية جديدة تمحي سابقتها. فالمعلومات في ذاكرتنا الحسية إلى زوال ما لم تحظ باهتمامنا وتدخل ذاكرتنا العاملة.
B.الذاكرة العاملة أو قصيرة الأمد:
الأثر الناجم عن الوضع السلسلي
خضع مجموعة من الناس في عام 1966 لتجربة حيث عرضت عليهم خلالها سلسلة من 15 كلمة وتم اختبار قدرتهم على تذكر هذه الكلمات على الفور أو بعد 30 ثانية. عند اختبار ذلك بعد عرض الكلمات مباشرة، تذكر هؤلاء الكلمات الواقعة في بداية ونهاية السلسلة بشكل أفضل من تلك الواقعة في الوسط. تدعى هذه الظاهرة بالأثر الناجم عن الوضع السلسلي. عند تأجيل الاختبار مدة 30 ثانية لم يعد بمقدور هؤلاء تذكر الكلمات في نهاية السلسلة.
- يتكلم الكاتب بلغة الاحتمالات وعدم الجزم لأن قضايا الذاكرة تخضع أيضاً للفروقات الفردية. المترجم.
شكل (4)
اعتاد علماء النفس في السابق على استعمال مصطلح الذاكرة قصيرة الأمد للدلالة على قدرة الشخص على حفظ المعلومات في العقل لمدة قصيرة؛ ولكن مع اتساع مفهوم الذاكرة قصيرة الأمد ليشمل أكثر من تلك الدلالة اصطلح العلماء اسماً آخر. يستعمل الآن مصطلح الذاكرة العاملة على نطاق واسع ليشير إلى نظام يشمل كل من التخزين القصير للمعلومات والسماح باستخدام ومعالجة المعلومات المخزنة سابقاً في الذاكرة طويلة الأمد.
نستطيع الحفاظ على وجود المعلومات في حيز هذه الذاكرة باستظهارها. فعلى سبيل المثال، افترض أنك تقوم بالبحث عن رقم هاتف ما في دفتر العناوين. تستطيع الحفاظ على الرقم في ذاكرتك (بشكل تنقصه الدقة غالباً) بترديد ذلك الرقم لنفسك مراراً وتكراراً، ولكن قد تفقده وتحتاج إلى استخراجه مجدداً إذا شتت انتباهك شيء ما لبرهة قصيرة. وبناء عليه فإن المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد عرضة للنسيان السريع، ولمعلومات أكثر عن فترة بقاء المعلومات في حيز الذاكرة قصيرة الأمد أنظر فقرة معدل النسيان.
غالباً ما يلجأ العلماء في دراسة تخزين الذاكرة قصيرة الأمد إلى اختبار قدرة مجموعة من الناس على تذكر قائمة من المفردات. في إحدى تلك التجارب النموذجية تعطى مجموعة من الناس سلسلة من الكلمات (كلمة واحدة كل عدة ثوان) ثم يطلب منهم سرد أكبر عدد ممكن من الكلمات بأي ترتيب كان. يتذكر أكثر الناس الكلمات الواقعة في أول وآخر السلسلة بشكل أفضل من تلك الواقعة في وسطها. تدعى هذه الظاهرة بالأثر الناجم عن الوضع السلسلي لأن تذكر الناس لكلمة ما يتعلق بموضعها أي موقعها في السلسلة. تظهر نتائج إحدى هذه التجارب في المنحنى المبين في الشكل (4). وقد تم في هذه التجربة اختبار عملية الاسترجاع مباشرةً بعد تقديم قائمة المفردات (المعلومات) ومرةً أخرى بعد 30 ثانية. أظهر الخاضعون للتجربة في كلتا الحالتين ما يسمى بأثر الأسبقية أي الاستدعاء الأفضل للمعلومات في بداية السلسلة. يعتقد علماء النفس أن لحدوث هذه الظاهرة أساساً في ميل الناس لمعالجة المعلومات الأولى عموماً أكثر من لاحقاتها. أظهر الخاضعون للتجربة في الحالة الأولى (الاستدعاء المباشر) ما يسمى أثر حداثة المعلومات أي الاستدعاء الأفضل للمعلومات في نهاية السلسلة. يحدث ما يسمى بأثر حداثة المعلومات بسبب قدرة الناس على تخزين المعلومات المستقبلة حديثاً بشكل مؤقت في الذاكرة قصيرة الأمد. عند تأجيل اختبار المعلومات مدة 30 ثانية فإن المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد تتلاشى وبالتالي يختفي أثر حداثة المعلومات.
هناك حد أساسي لا يمكن تجاهله وهو انحصار قدرة تخزين الذاكرة قصيرة الأمد على كمية محدودة من المعلومات للمرة الواحدة. ركزت الأبحاث الأولى التي أجريت على الذاكرة قصيرة الأمد وقدرتها على تخزين المعلومات على (المدى الزمني للتذكر) أي عدد المفردات أو المعلومات التي يستطيع الناس استرجاعها تباعا؛ فقد قام هؤلاء العلماء بتقديم وعرض سلاسل متزايدة الطول من الأرقام أو الحروف على مجموعة من الناس ومن ثم دعوتهم لتذكر أكبر عدد ممكن من تلك المعلومات.
قام عالم النفس اللأمريكي جورج ميلر عام 1956 بالإطلاع على نتائج تجارب عديدة في ذلك المجال ومن ثم استنتج أن الناس قادرون على حفظ حوالي 7 مفردات من ذلك النوع من المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد. لقد أشار إلى هذا الحد بما سماه ” الرقم السحري 7 يزيد أو ينقص عنه اثنان ” وذلك لأن نتائج الدراسات ظلت ثابتة. حاولت تجارب لاحقة أن تقوم بالتمييز بين حيز التخزين الحقيقي والحيز الجاري دراسته وقياسه باستخدام اختبارات أكثر دقة ً وتعقيداً من تلك التي تركز على المدى الزمني للتذكر. قدرت هذه التجارب سعةً للتخزين في الذاكرة قصيرة الأمد أقل من سابقاتها. يستطيع الناس تجاوز حدود التخزين هذه عن طريق تجمع المعلومات ضمن مجموعات أو وحدات دالة (تدرس هذه النقطة بوضوح في الفقرة التشفير والترميز).
ترتبط سعة الذاكرة العاملة بالذكاء حيث يتم قياسها في اختبارات الذكاء. قاد هذا الربط بعض علماء النفس إلى مناقشة كون هذه القدرات أساساً يقوم عليه الذكاء العام. بمعنى أنه كلما كان هؤلاء الناس قادرين على حفظ المعلومات في عقولهم أثناء التفكير كلما كانوا أذكياء. إضافة إلى ذلك يشير البحث إلى أن هناك أنواعاً مختلفة للذاكرة العاملة؛ فعلى سبيل المثال: تبدو المقدرة على حفظ معلومات ذات طبيعة مشهدية مستقلة عن تلك التي تستخدم لحفظ معلومات كلامية.
C.الذاكرة طويلة الأمد:
يتضح من المصطلح ” الذاكرة طويلة الأمد ” بأنه عبارة جامعة لمدلولات عدة إذ يشير إلى حقائق تم تعلمها لحظات خلت، كما يشير أيضاً إلى ذكريات شخصية ترجع إلى عدة عقود من الزمن، أو خبرات تم تعلمها مع الممارسة. على كل حال يستخدم المصطلح لوصف نظام عقلي يسمح بتخزين كميات كبيرة من المعلومات على قاعدة دماغية تسمح بهذا التخزين وتتسع باتساعه. عندما تلعب كرة القدم أو تتذكر ما تناولته على الغداء البارحة، أو تتذكر أول مرة احتفلت فيها بيوم ميلادك، أو تلعب أي لعبة سخيفة، أو تغني أغنية ما لدى سماعها أو سماع لحنها، فأنت في كل هذه الحالات تقوم باستحضار المعلومات من الذاكرة طويلة الأمد.
تختلف نظريات علماء النفس فيما يخص كيفية دخول المعلومات إلى الذاكرة طويلة الأمد. تقول وجهة النظر التقليدية بدخول المعلومات أولاً إلى الذاكرة قصيرة الأمد وبعد ذلك من الممكن أن تنتقل إلى الذاكرة طويلة الأمد بحسب كيفية معالجتها. هذا بينما تقول وجهة نظر أخرى بأن المعلومات تأخذ مسارين متوازيين في كلتا الذاكرتين بدلاً من المسار السلسلي، أي أنه من المحتمل تسجيل المعلومات في كلتا الذاكرتين في ذات الوقت.
يبدو مما تقدمه الدراسات بأن لا سعة تخزين محددة للمعلومات الجديدة والخبرات التي يتعلمها ويكتسبها الناس خلال حياتهم ويقومون بتخزينها في الذاكرة طويلة الأمد. على الرغم مما يبديه كبار السن من انحسار في بعض قدرات التخزين هذه (كاستدعاء الوقائع حديثة العهد على سبيل المثال)، إلا أنه قادرين على التمتع بما لديهم من مهارات بالرغم من التقدم في السن. نأخذ على سبيل المثال الازدياد المطَرد لرصيد الشخص اللغوي (المفردات) عبر حياته. يبقى دماغ الإنسان طيعاً وقادراً على اكتساب المعلومات الجديدة خلال حياته، على الأقل في الأحوال الطبيعية (ما لم يتعرض لمرض ينال الجهاز العصبي). تقلص بعض الأمراض العصبية كمرض الزيمر مثلاً القدرة على التعلم واكتساب المعلومات الجديدة.
تعامل علماء النفس في السابق مع الذاكرة طويلة الأمد كنظام واحد، ولكن يميز معظم الباحثون في أيامنا هذه ثلاثة أنظمة للذاكرة طويلة الأمد:
ذاكرة الأحداث والوقائع، وذاكرة الحقائق، ثم ذاكرة المهارات.
ذاكرة الأحداث والوقائع (الزمان والمكان):
وتشير إلى الذكريات المتعلقة بحادثة أو واقعة من حياة الشخص وهي ما يتبادر إلى أذهان معظم الناس لدى سماعهم كلمة الذاكرة. ترتبط هذه الذكريات بزمان ومكان محدد. سوف تلجأ إلى هذا النوع من الذاكرة في حال طلب منك سرد كل ما فعلته ليلة البارحة. كذلك الأمر عندما تصف قضاء عطلة مع العائلة، أو تتذكر شعورك عند فوزك بجائزة ما، أو الظروف المحيطة بحادث ما في مرحلة الطفولة. تحوي هذه الذاكرة تفاصيل حياتنا الشخصية أو ما يسمى بسيرتنا الذاتية.
ذاكرة الحقائق:
يشير مصطلح ذاكرة الحقائق إلى معرفتنا العامة للعالم وكل الحقائق التي نعرفها. تتيح هذه الذاكرة للشخص أن يعرف مثلاً بأن الرمز الكيماوي للملح هوNaCl، وبأن أربع قوائم للكلب وبأن توماس جيفرسون كان رئيساً للولايات المتحدة، أو أن 3*3 = 9 وآلاف الحقائق الأخرى. لا ترتبط ذاكرة الحقائق بمكان وزمان التعلم. فعلى سبيل المثال، لا يتطلب تذكر أن توماس جيفرسون كان رئيساً استرجاعاً للزمان والمكان الذي تم فيه تعلم هذه الحقيقة للمرة الأولى؛ وهكذا تتجاوز المعرفة السياق الذي تم فيه تعلمها أولاً. تختلف ذاكرة الحقائق في هذه النقطة عن ذاكرة الأحداث والوقائع التي ترتبط بالزمان والمكان ارتباطاً كبيراً. تبدي ذاكرة الحقائق اختلافاً آخر عن ذاكرة الأحداث والوقائع على صعيد التشكيلة العصبية. يبدي مرضى الجهاز العصبي ممن تعرضت أدمغتهم للأذى والذين تواجههم صعوبة كبيرة في تذكر خبراتهم حديثة العهد جاهزية لاستخدام الذكريات الدائمة. وهكذا تبدي كلتا الذاكرتين أنظمة ذات قدرات مستقلة.
ذاكرة المهارات المكتسبة:
شكل (5)
يشير المصطلح إلى المهارات التي يكتسبها البشر كربط عقدة حذائنا أو ركوب الدراجة أو السباحة أو قذف الكرة في لعبة البيسبول (القاعدة). غالباً ما يتعارض نظام ذاكرة المهارات المكتسبة مع نظامي ذاكرة الأحداث والوقائع وذاكرة الحقائق. تصنف الذاكرتين الأخيرتين كنماذج للذاكرة التصريحية لأنه بمقدور الناس استدعاء الأحداث والوقائع والخبرات بشكل واعٍ ومن ثم الوصف أو التصريح الكلامي بهذه الذكريات. على العكس من ذلك فإن الذاكرة غير التصريحية أو ذاكرة الخبرات فتجسدها الممارسة والأداء ولا تتطلب عادةً عمليةً واعية للاسترجاع. قل هل تستطيع أن تتعلم كيفية عقد رابطات حذائك أو السباحة بواسطة وسائل تصريحية؟ أوهل تستطيع ذلك بالقراءة أو الاستماع لوصف يشرح كيفية فعل ذلك. وحتى لوأمكن فعل ذلك فإن سير العمل سيكون بطيئاً وصعباً ومتعثراً. تعتبر الممارسة والقيام بخطوات فعلية الطريقة المثلى في اكتساب المعرفة المرتبطة بالخبرة وليس عن طريق الإرشادات الكلامية. يعتبر التلقين الكلامي في تعليم رياضة ما جزء من عملية نقل المعرفة المرتبطة بالخبرة عبر وسائل توضيحية إلا أن التلقين المصحوب بأمثلة (وشريط تلفزيوني مسجل) قد يأتي بنتائج أفضل. هذا ويبقى للممارسة مركز الصدارة وليس من بديل لها في معظم الحالات. يتطلب تعلم الخبرات جهداً لا بأس به ويظهر التحسن خلال فترة طويلة من الزمن. يظهر المنحني في الشكل (6) والمعنون “الممارسة والسرعة في صناعة السيجار” أثر الممارسة على عمال معمل السيجار الكوبيين، وهكذا فإن أداءهم في تحسن مستمر حتى بعد أن تجاوز عدد ما أنتجوه 100000 سيجار.
شكل (6)
الممارسة والسرعة في صناعة السيجار
تداخل عمل أنظمة الذاكرة طويلة الأمد:
على الرغم من أن كل من الذواكر آنفة الذكر تمثل نظاماً مستقلاً إلا أنه غالباً ما نرتكب خطأً عندما نعتقد أن أداء مهمة ما تقوم بشكل كلي على أحد هذه الأنظمة بشكل منعزل عن البقية. تعتبر الأمثلة المذكورة سابقاً (تذكر أحداث البارحة، المعرفة بأن توماس جيفرسون كان رئيساً، أو ربط الحذاء) حالات جيدة لتوضيح هذا التداخل. على كل حال، فإن معظم النشاطات البشرية تعتمد على هذا التداخل في أنظمة الذاكرة طويلة الأمد. خذ أي مثال تتجلى فيه الخبرات الاجتماعية كتقاليد المائدة مثلاً. إذا كنت على علم بكيفية فرش طاولة الغداء بوضع الشوكة على يسار كل صحن فهل تندرج معرفتك هذه في إطار ذاكرة الأحداث (في حال شاهدت شخصاً يقوم بذلك) أم ذاكرة الحقائق أم ذاكرة الخبرات والمهارات المكتسبة؟ قد يكون الجواب إطاراً يجمع هذه الذواكر جميعاً. بالإضافة إلى ذلك فإن ذاكرة المهارات المكتسبة لا تنطبق على الخبرات الفيزيائية فحسب كما في المثال السابق وإنما تتعداه إلى سلوكيات إدراكية معقدة كالقراءة والتذكر فلهذه أيضاً سمة المهارات إذ أن هناك خطوات عقلية يتم اتخاذها لأدائها كنشاطات. وعلى هذا فإن الفصل بين الذاكرة التصريحية وذاكرة المهارات ليس نهائياً وتاماً في جميع الأحوال.
التشفير وإعادة الترميز:
يقصد بالتشفير عملية إدراك المعلومات وإدخالها إلى الذاكرة. ولا تنحصر هذه العملية بنسخ هذه المعلومات من العالم الخارجي إلى الدماغ وإنما يعطي مصطلح إعادة الترميز فهماً أفضل للعملية وهو نقل المعلومات من شكل إلى آخر. يقدم النظام البصري عند الإنسان مثالاً عن كيفية انتقال المعلومات من شكل إلى آخر. يدخل الضوء من العالم الخارجي إلى العين على شكل موجات من الإشعاع الإلكترومغناطيسي. تحول شبكية العين هذا الإشعاع إلى إشارات كهربائية يجري استيعابها في الدماغ كصور. وبشكل مشابه لذلك عندما يقوم الناس بتشفير المعلومات في ذواكرهم فإنهم ينقلوها من شكل إلى آخر لمساعدتهم على تذكرها لاحقاً. لنأخذ على سبيل المثال رقماً بسيطاً كالرقم 7، فنرى أنه بالإمكان إعادة ترميزه بطرق مختلفة: مثلاً كلمة ” سبعة “، الرقم الروماني ” VII “، ” عدد أولي “، ” الجذر التربيعي للعدد 49 ” الخ. إن إعادة الترميز روتين تعتمده الذاكرة.
لكل شخص فينا خلفية معرفية خاصة ومجموعة من التجارب التي تساعد أو تعيق عملية اكتسابنا لمعلومات جديدة، فقد يكون بمقدور عالم للطيور أن يتعلم قائمة بأسماء عدد من الطيور التي يندر تداول أسمائها بسهولة وسرعة تفوق قدرة معظمنا على ذلك. ترجع مقدرته تلك إلى معرفته المسبقة بالطيور والتي تسمح بترميز أسهل وأسرع لتلك الأسماء.
غالباً ما يكمن سر التذكر السريع في إعادة الترميز ومن أجل استيعاب أفضل لمفهوم إعادة الترميز، حاول أولاً الاحتفاظ بسلسلة الأرقام التالية في ذاكرتك وذلك بقراءتها بصوت عال لمرة واحدة مغمض العينين ومن ثم سرد هذه الأرقام في ترتيبها الصحيح: واحد، أربعة، تسعة، ستة، واحد، خمسة، اثنان، ستة، ثلاثة، تسعة، أربعة، أربعة، ستة، واحد، ثمانية. والآن اختبر مقدرتك. إذا كنت فقط كبقية الناس (أومعظمهم) فقد لا تتذكر أكثر من سبعة أرقام من مجموع الأرقام بترتيبها الصحيح. على كل حال، فإن طريقة بسيطة كانت ستساعدك في استدعائهم بجهد أقل. اكتب الكلمات السابقة على شكل أرقام فقد تلاحظ أنها تمثل الأعداد التربيعية للأعداد من 1 وحتى 9: 1، 4، 9، 16، 25، 36، 49، 64، 81. ذلك أن مربع العدد 1 هو1، ومربع العدد 2 هو4، ومربع العدد 4 هو 16وهلم جراً. وهكذا فإن ترميز سلسلة الأرقام كقاعدة ذات دلالة جامعة ورابطة للأرقام ببعضها (مربعات الأعداد من 1 وحتى 9) قد يساعدك على تذكر الخمسة عشر عدداً. على الرغم من كون المثال المطروح مبتكر ومدبر إلا أن المبدأ الذي يمثله صحيح تماماً ويصح تعميمه: (تعتمد قدرة التذكر لدى شخص ما على طريقة ترميزه للمعلومات). تدعى عملية إعادة الترميز أحياناً بالتجميع وذلك بسبب إمكانية تجميع معلومات منفصلة ومستقلة في وحدات دالة عليها. فعلى سبيل المثال: لنأخذ الأحرف الخمسة التالية e، t، s، e، l والتي يمكن إعادة ترتيبها في كلمة sleet حيث يتم تذكر كلمة واحدة بدلاً من خمسة أحرف.
لقد قام علماء النفس بدراسة طرق مختلفة لترميز المعلومات. يمثل الاستظهار إحدى هذه الطرق الشائعة التي غالباً ما يستخدمها الناس لتذكر المعلومات (الإعادة العقلية للمعلومات). على كل حال فإن التكرار الببغائي للمعلومات مراراً وتكراراً قلما يلعب دوراً في الإبقاء الطويل للمعلومات على الرغم من نجوع الطريقة في حالات كحفظ رقم هاتف مثلاً في الذاكرة العاملة. تعتبر المعالجة للمعلومات التي تتضمن تفكيراً حول المعلومات ومعناها ودلالتها وربطها بمعلومات أخرى في الذاكرة طويلة الأمد طريقة أكثر جدوى لتذكر هذه المعلومات.
يمثل تحويل المعلومات إلى صور ذهنية أحد الأشكال لهذه الطريقة في معالجة المعلومات. فعلى سبيل المثال عملت إحدى التجارب على إجراء مقارنة بين مجموعتين من الناس أعطيت كل منها تعليمات مختلفة في كيفية تخزين قائمة من الكلمات في الذاكرة. طلب من المجموعة الأولى إعادة الكلمات مراراً وتكراراً، بينما طلب من المجموعة الثانية تكوين صور ذهنية للكلمات. أدى تشكيل صور ذهنية للكلمات (التي تدل على أشياء محسوسة ككلمة ” شاحنة ” وكلمة “كرة الطائرة”) إلى استدعاءٍ لاحق أفضل للمعلومات مما هو عليه الحال لدى من اعتمد الاستظهار الغيبي.
يعد التفكير حول المعلومات أيضاً تقنية جيدة لمعظم مهام الذاكرة. بينت الدراسات أن قدرتنا على الاستدعاء اللاحق للمعلومات تزداد بزيادة عمق معالجتنا وتحليلنا لهذه المعلومات. أجرى عالما النفس الكنديين فيرغس كريك وإيندل تلفنغ مجموعة من التجارب لتوضيح هذا الأثر. قام المجربون بتوجيه أسئلة إلى مجموعة من الناس حول سلسلة من الكلمات مثل كلمة “دب” والتي جرى إصدار كل منها على حدا عبر وميض ضوئي. اعتمدت التجارب ثلاثة أنماط مختلفة من الأسئلة لكل كلمة، حيث تطلب كل منها مستوىً مختلفاً من المعالجة والتحليل وتم توجيه كل نمط إلى مجموعة من الناس. فمثلاً سُئِل هؤلاء عن المظهر البصري (الشكل) للكلمة: “هل ظهرت الكلمة بحروف صغيرة أم كبيرة؟” كما وطلب منهم التركيز على الصوت في كلمات أخرى: “هل للكلمة وكلمة كرسي نفس القافية؟” بينما اختص النمط الثالث بالمعنى “هل ذاك اسم لحيوان؟” لدى اختبار قدرة هؤلاء الناس على تذكر الكلمات التي عرضت عليهم مسبقاً، أبدوا ضعفاً شديداً في تذكر الكلمات التي اعتمدوا في ترميزها على الشكل والصوت. وبالمقابل أظهروا نتائجاً أفضل بكثير في تذكر الكلمات التي اعتمدوا في ترميزها على المعنى. انظر الشكل (7) والمعنون ” الذاكرة والمعالجة العميقة للمعلومات.”
شكل (7)
الذاكرة والمعالجة العميقة للمعلومات
على الرغم من حاجة بعض المعلومات لمعالجة بطيئة وعميقة حتى يتم تخزينها في الذاكرة طويلة الأمد إلا أن قسماً كبيراً من المعلومات يخزن أوتوماتيكياً بدون جهد أو حتى وعي بذلك. يقوم كل شخص منا يومياً بتخزين آلاف من الأحداث والحقائق وأغلبها من النوع الذي لن يتطلب منا جهد الاستدعاء. مثلاً لا يحتاج الناس جهداً واعياً لتذكر وجه شخص يتم لقاؤه للمرة الأولى فهم يتعرفون على الوجه بسهولة في اللقاءات اللاحقة. تشير الدراسات على تخزين الناس أيضاً لمعلومات حول المكان والزمان وتكرر الأحداث دون أن ينوون ذلك. فعلى سبيل المثال، يمكن للناس تحديد عدد مرات ورود كلمة ما في سلسلة من الكلمات بدقة ترتبط طبعاً بعدد هذه الكلمات في السلسلة.
لقد قام البشر بتطوير طرق ترميز عديدة تتميز بالبطء وإمعان التخيل ويطلق على هذه الطرق ” أجهزة التذكر ” لكونها تساعد في عملية تذكر المعلومات. لتوضيح ما يعرف بأجهزة التذكر أُنظر الفقرة المعنونة “طرق لتحسين القدرة على التذكر”.
استرجاع الذكريات:
من البديهي أن الترميز والتخزين ضروريان لاكتساب وحفظ المعلومات لكن الحلقة الأهم في عملية التذكر هي الاستدعاء والذي من دونه سنكون عاجزين عن الوصول إلى معلوماتنا المخزنة. فمن دون استدعائنا لخبرة ما لا نقوم بتذكرها حقيقةً. وبمعنى أوسع فإن الاستدعاء يشير إلى استخدامنا للمعلومات المخزنة.
اعتبر علماء النفس ولسنين طويلة مضت بأن استدعاء المعلومات هو الجمع البطيء للحقائق والخبرات من الماضي. على كل حال، مع بدايات الثمانينات من القرن العشرين تبين لهؤلاء العلماء بأنه يمكن للخبرات الماضية أن تؤثر في الناس بدون وعي منهم بأنهم يتذكرون. فعلى سبيل المثال، أظهرت سلسلة من التجارب على بعض فاقدي الذاكرة بسبب ضرر دماغي واللذين فقدوا بعضاً من وظائف الذاكرة أنهم تأثروا بمعلومات كانوا قد رأوها مسبقاً برغم عدم تذكرهم لكونهم رأوا هذه المعلومات سابقاً. بالاعتماد على هذه المعلومات ومعلومات أخرى يميز العلماء الآن بين نمطين رئيسيين لعملية الاستدعاء وهما كالتالي: التذكر المتعمد والتذكر غير المتعمد.
1) التذكر المتعمَد (الواعي):
يشير المصطلح إلى التجميع البطيء والواعي للحقائق والخبرات الماضية، فإذا طلب منك شخص ما استدعاء وسرد كل ما قمت به البارحة فإن ذلك يتطلب منك تذكراً واعياً أو متعمد. هناك نوعان أساسيان لاختبارات التذكر المتعمد: اختبارات الاستدعاء واختبارات التعرف على المعلومات السابق تخزينها.
في اختبارات الاستدعاء يطلب من الناس استدعاء المعلومات من دون مساعدة أي دلائل أو إشارات محرضة للمعلومات ذات الصلة. ومن أمثلة ذلك طلب سرد كل ما حدث معك ليلة البارحة أو الطلب بإعادة تجميع كل الكلمات التي سمعتها للتو من قائمة بهذه الكلمات. افترض أنه عرضت عليك سلسلة من الكلمات: بقرة، جائزة، طريق، جوهرة
عادة، خيط، طقس، فإن اختبار الاستدعاء يتمثل في الطلب منك بكتابة أو قول أكبر عدد ممكن من هذه الكلمات. وإذا طلب ذلك منك بأي ترتيب كان فإن الاختبار من زمرة الاستدعاءات الحرة؛ أما إذا طلب ذلك منك مع المحافظة على نفس الترتيب فإن ذلك ما يدعى بالاستدعاء السلسلي أو المشروط. هناك أيضاً نمط آخر للاستدعاء وهو الاستدعاء الذي يكون جواباً لسؤال مرفوق بأحد الدلائل المساعدة على عملية الاستدعاء. وفي حال أخذنا قائمة الكلمات السابقة كمثال فاختباراً من هذا النوع ” Cued recall ” قد يتجه بالسؤال: ” أي من الكلمات في القائمة ترتبط بالسيارة؟” وتعتبر الأسئلة الامتحانية في المدارس التي تطلب من الطلاب كتابة مقالة أو ملء الفراغات أمثلة لاختبارات الاسترجاع أو الاستدعاء. حيث تتطلب كل اختبارات الاستدعاء استرجاعاً متعمداً وواعياً للمعلومات من الذاكرة.
تتطلب اختبارات التعرف على المعلومات معاينة قائمة من المفردات ومن ثمّ تحديد ما تم رؤيته سابقاً أو تحديد ما إذا كنا قد شاهدنا أحد هذه المفردات من قبل. تعتبر الأسئلة المرفقة بإجابات متعددة أو أسئلة (صح أم خطأ) من أمثلة اختبارات التعرف على المعلومات. لنأخذ على سبيل المثال قائمة الكلمات الواردة في الأعلى فإن اختبار التعرف على المعلومات يسألنا السؤال التالي (أي من الكلمات التالية ظهرت في تلك القائمة؟) (أ) نبتة (ب) سائق (ت) خيط (ث) راديو. عادة ما يتمكن الناس من التعرف على مفردات لا يمكنهم سردها؛ فقد تتعرض لسؤال تعجز عن الإجابة عليه لكنك تتذكر الإجابة الصحيحة عندما يقوم شخص ما بذكر تلك الإجابة. وبنفس الطريقة قد يجد الناس صعوبة في سرد أسماء زملائهم في الثانوية لدى عرض ألبوم بصورهم؛ لكنهم يستطيعون انتقاء هذه الأسماء بسهولة لدى عرضها في قائمة من الأسماء المختلفة.
يتم في بعض الأحيان تفضيل الاسترجاع على التعرف؛ فعلى سبيل المثال يسألك أحدهم: ” هل تعرف رجلاً مشهوراً باسم كووبر؟ ” وقد تجيب بالنفي. على كل حال فإنك حالما تعطى الاسم الأول ” جيمز فينيمور ” قد تتذكر كاتباً أمريكياً باسم جيمز فينيمور كووبر على الرغم من عدم تعرفك على الكنية لوحدها.
2)التذكر غير المتعمد (اللاواعي):
يشير المصطلح إلى استخدام المعلومات المخزنة من دون محاولة استعادتها. يقوم الناس عادة باستبقاء واستخدام المعلومات السابقة من دون دراية أو قصد بذلك. افترض مثلاً أن كلمة ” سليقة ” ليست مما يتردد في ذاكرتك العاملة وحدث أن سمعتها في أحد الأيام على لسان أحدهم خلال المحادثة. يحدث أن ترد هذه الكلمة لاحقاً على لسانك أثناء المحادثة ومن دون دراية منك كيف حدث واستخدمتها. إن سماعك السابق لهذه الكلمة هيئتك لاستعادتها بشكل أوتوماتيكي في السياق المناسب من دون أن تقصد فعل ذلك.
من الأمثلة الأخرى على التذكر غير المتعمد ما يحدث في حياتنا اليومية من انتحال غير مقصود لأفكار الغير؛ إذ يمكن للناس فعل ذلك من دون دراية بأنهم يقومون بإنتاج نسخة مطابقة لأفكار الغير. وطالت الحالة الأكثر شهرةً المطرب وكاتب الأغاني البريطاني جورج هاريسون. لقد صدر حكم بحق هاريسون بسبب التشابه الكبير بين أغنيته ” سيدي وحبيبي” التي نالت جماهيرية كبيرة لدى نزولها الأسواق في 1970 وبين أغنية راجت أيضاً عام 1963 تدعى “إنه بخير” لفرقة الأوشحة. أنكر هاريسون كونه سرق الأغنية الأولى عن عمد لكنه اعترف بكونه سمعها قبل كتابة “سيدي وحبيبي”). أصدر أحد القضاة عام 1976 حكماً آخر بحق هاريسون استنتج خلاله أن لذاكرة المتهم دورها الذي أثر بشكل غير واعي على هاريسون وقاده إلى تأليف تلك الأغنية.
يستخدم علماء النفس مصطلح ” الطبقة الأولية ” لوصف تغيراً أوتوماتيكياً في أدائنا نتيجة تعرضنا المسبق لمعلومات ما. تتشكل هذه الطبقة وتؤثر في الناس حتى ولو لم يتذكروا فيما إذا عرضت عليهم هذه المعلومات قبلاً. أحد الطرق إذاً للبرهان على وجود التذكر غير المتعمد يكون في قياس تأثير ” الطبقة الأولية ” هذه. يطلب عادة من مجموعة الناس الخاضعين لتجارب التذكر غير المتعمد دراسة قائمة طويلة من الكلمات مثل assassin و boyhood. يقدم لهؤلاء الناس لاحقاً سلسلة من أجزاء غير منتظمة من الكلمات (مثل
a_ _ a_ _in وb_ _ho_ d ) أومقاطع من الكلمات مثل ( a s______ أو bo______ ) ويطلب منهم إكمال هذه الأجزاء أو المقاطع بأول كلمة تخطر على بالهم.
لا يطلب من هؤلاء الناس صراحة استدعاء قائمة الكلمات ومع ذلك يدفع العرض السابق للكلمات assassin و boyhood بالمجربين إلى إكمال أجزاء الكلمات أكثر مما يفعل التخمين. بهذا نجد أن تأثير “الطبقة الأولية” يحدث حتى وإن لم يتذكر المجربون دراستهم للكلمات مسبقاً وهذا دليل قوي على التذكر غير المتعمَد. إن العلامة الفارقة لاختبارات التذكر غير المتعمد هي أنه لا يطلب من المجربين القيام بالتذكر وإنما يتم إعطاءهم مهمة ويفسح المجال لظهور أو التعبير عن خبرة سابقة مرتبطة بالموضوع بشكل أوتوماتيكي.
ويجدر التنويه أيضاً إلى أنه حتى مرضى فقدان الذاكرة يبدون قدرة على التذكر غير المتعمد. أجريت إحدى التجارب على مجموعة من فاقدي الذاكرة وآخرين سالمين وبعد دراستهم لبعض القوائم من الكلمات وإعطائهم كلاً من اختباري التذكر المتعمد (سرد حر) والتذكر غير المتعمد (إكمال مقاطع الكلمات). فشل مرضى فقدان الذاكرة فشلاً ذريعاً في اختبار الاسترجاع (التذكر) الحر بمقارنتهم مع ذويهم السالمين؛ فنظراً لاضطراب ذواكرهم بالكاد تمكنوا من تذكر بعض الكلمات من القوائم. على كل حال فقد أظهر مرضى فقدان الذاكرة مقدرة مماثلة أو تفوق ذويهم السالمين في اختبار التذكر غير المتعمد (انظر الجدول المرفق والمعنون ” تذكر الكلمات لدى مرضى فقدان الذاكرة “). وهكذا وبرغم عدم تمكن مرضى فقدان الذاكرة من استدعاء الكلمات المطلوبة منهم لكنهم أطهروا تخزيناً للمعلومات على شكل أثر ” للطبقة الأولية ” لدى اخضاعهم لاختبار التذكر اللاواعي فقد قاموا بتخزين المعلومات من دون دراية بذلك.
أظهرت الدراسات استقلالاً فيما يؤديه شخص ما بين اختبار التذكر الواعي واختبار التذكر اللاواعي. فالعوامل ذات التأثير البالغ على أداء الشخص في اختبار التذكر الواعي تبدو عديمة الأثر أو ذات أثر عكسي عليه في اختبار التذكر اللاواعي. فعلى سبيل المثال، يعتمد الاستدعاء الواعي للمعلومات بشكل كبير على ما يثير انتباه الشخص أكثر (شكل الكلمة، صوتها، أو معناها) لكن ليس لهذا العامل المتغير أي تأثير عملي على أداء الشخص في اختبار التذكر اللاواعي. انظر الجدول المرفق والمعنون “التذكر المتعمد والتذكر غير المتعمد”. يكشف هذا النوع من الاختبارات (التذكر اللاواعي) الغطاء عن شكل آخر مختلف للذاكرة.
******
ترجمة عن الموسوعة الالكترونية مايكروسوفت إنكارتا 2008.