لم يصل عليهم أحد: نسيج عنكبوت التراجيديا (ج1)

تمهيد:

(أشعر بالعرفان والتقدير لأصدقائي الذين كانوا معي كرماء كما هي عادتهم دوما، قرأوا مسودات هذه الرواية في مراحلها المختلفة… بداية أشعر بالعرفان الدائم لصديقتي الرائعة…في هذه الرواية كانت معي منذ اللحظات الأولى لبداية فكرتها قبل أكثر من عشر سنوات، واستمعت طوال سنوات الكتابة إلى هواجسي، احتملت قلقي، وقرأت المسودات الأولى الفوضوية والنهائية أكثر من خمس مرات…)

ليس سهلا أن تستمر في قراءة رواية، ” لم يصل عليهم أحد” لخالد خليفة، بشكل عادي وسلس، لأنك لا تقلب بين يديك كما ضخما من الأوراق، بل كمّا مخيفا وحارقا من عذابات ألم حمم البركان التي تتدفق من شقوق النص، وفوهة المعنى الذي تحاول سيرورة القراءة تتبع منعرجات تشكله الوعرة، من صفحة لأخرى، أو بشكل أدق من محنة وتجربة مؤلمة لأخرى أكبر منها وأعقد بكثير. وأثناء القراءة، أنت لا تقوى على تجاهل السؤال المرعب والحارق الذي يلاحقك بضغط عنيف، و يحاصر فرضياتك التأويلية، وتساؤلاتك القلقة، وهواجسك التي ترهق كيانك بعشرات الأسئلة المحرقة: كيف استطاع الراوي والكاتب الضمني والصريح لأكثر من عشر سنوات، ومن خلال عشرات المسودات التي وجدت نفسها تحت رحمة الناسخ والمنسوخ، والحذف والإضافة والتعديل، تحمّل عبء نسيج عنكبوت التراجيديا، المحفوفة بعذابات الآلام الحافرة، كمدية حادة تنغرز في القلب والدماغ الى حد الجلطة الدماغية، وهي تهدد بموت شاق فجر سردية لم تكن في الحسبان، مرعبة، و خارج المنطق والمألوف واللامعقول، لكنها كانت واقعية أكثر من الواقع، ولا يملك الإنسان حيالها في مثل هذا الواقع العربي والسوري خصوصا إلا أن يصدقها في غرابتها وجنونها المنطقي واللاعقلاني؟ كيف أمكن لهذا الشامان السوري أن يتأبط أساطيره، حكاياته، سردياته المفتوحة النهايات بشغف كبير بحثا عن المعنى الذي أتت عليه أشكال مختلفة من الطوفان المائي والزلزال الأرضي والدموي، دون أن ننسى ما خلفته المجاعات وحروب القهر والتعصب والتسلط. كل هذه الأحداث في وحشيتها لم ترحم صغيرا ولا كبيرا، رجلا ولا امرأة؟

كيف أمكن له أن يحمل هذه الأمانة الشاقة والصعبة للبحث عن الشكل والمعنى، لكل ما حدث ويحدث في جذوره الماضوية وامتداداته الراهنة، الآن هنا، من قتل، وتهجير، وخراب ودمار، وتمزق وتشظي للهويات والطوائف والمذاهب والإثنيات…؟

هذه الأسئلة التي ليست إلا السؤال الجذري المؤرق الحارق والمؤلم الذي ولدته سيرورة القراءة في تقمصها الفني والنقدي لأجواء وفضاءات وديناميات البنية الروائية، ولمختلف التفاعلات المعنوية والدلالية والفكرية التي أنتجها جدل الكتابة والقراءة في رحلة بحثه عن الشكل والمعنى لجعل الانسان، الممسوس بشرّ هذه المأساة المتجددة باستمرار، في الصورة قصد إزاحة اللبس والغموض، واستعادة المعنى والأمل في معانقة فرحة الحياة، والولادة من جديد للمجتمع والمدينة: حلب/ سورية؟

  • في البحث عن الشكل والمعنى

(لحظة وصولي مع زكريا الى القرية المدمرة، لم أتوقع معنى الطوفان، وحين رأيت آثاره لم أصدق. مازلت غير مصدق. سرت دون تفكير الى الغرفة، اكتشفت وجود ثلاث مرايا كبيرة، كانت تعكس ضوءا ما لا أعرفه، القمر، أم صفحة النهر، أم وجوه الموتى؟ وقفت أمام المرآة الكبيرة، كان وجهي يشبه سحلية بقرون قبيحة.)34

في رواية ” لم يصل عليهم أحد” وجد الراوي نفسه أمام مسؤولية جسيمة إزاء سيرورة المأساة في تكونها وتطورها عبر التاريخ الحديث والمعاصر لمدينة حلب/سورية. ولا متسع أمامه لاختيارات كثيرة لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي، إلا من خلال السرد، الحكايات، القصص الديني، الأسطورة…، إنه في وضعية أقرب الى الفعالية الرمزية للوحي والرؤيا، أو إلى القديس والولي الصالح، صاحب المعجزات وأبو البركات. لكنه ليس إلا روائي هزته المأساة العميقة الجذور. خاصة وأنه يستحضر مرحلة تاريخية من السيطرة العثمانية، وهي مرحلة مرعبة ومؤلمة في مخاضاتها الانتقالية، بين القدامة والحداثة، بين القوة والتحديث الأوروبي والهشاشة والتخلف العثماني، بين الرغبة في الإصلاح وغلبة النزعة المحافظة الدينية الصوفية والإنكشارية. فلا إمكانية للتغلب على عذابات الآلام التي نزلت على الراوي بثقلها الرهيب وجعلت حياته وحياة الناس دربا من الآلام والمآسي الرهيبة التي تتجاوز طاقة الانسان في القبول والتقبل والتحمل لشر المأساة التي فرضت نفسها بعنف و بأساليب وممارسات لا منطقية وغيرعقلانية ولا معقولة في جنونها الفتاك إلى حد التدمير ونشر الخراب الأقرب إلى نوع من الفناء والابادة التي تجعل الانسان عاجزا عن الفهم والوعي وتشكيل المعنى حيال ماحل به  من رعب مروع  في القتل والتهديد بالموت. لذلك لا يملك الراوي خيارا آخر غير التسلح بالحكي للتغلب على الاختلال واستعادة التوازن المفقود. خاصة وأنه عانى طويلا وهو يحمل في جوفه العميق تاريخا بشعا مثقلا بالأحزان والدموع والخيبات والآلام والدماء البريئة التي لا تكف عن النزيف من جيل لآخر، كما لو كانت قدرا محتوما، أو مسا لوث السيرورة التاريخية الاجتماعية لمدينة حلب/سورية. بألم لا يخلو من عذاب الترحال حمل الراوي هذه الأمانة في البحث عن الشكل والمعنى لإعادة الأمور إلى نصابها الحق، من خلال كشف المستور وإزاحة الظلال الوارفة التي ضللت الناس وأفسدت المعنى وحولت حياتهم إلى سيرورة جحيم لا ينتهي. وأيضا رسم السبل للنجاة والخلاص من فقر الدم التاريخي الذي جعل الانسان جاهلا وعاجزا عن فهم الينابيع العميقة لعنف الدماء والمآسي التي يرزح تحت وطأة قهرها البشع والهمجي.

” لم يصل عليهم أحد” ليست رواية بالمعنى المتعارف عليه، إنها شكل من الفعالية الرمزية في رحلة البحث عن المعنى واليقين والحب، وسر الوجود والحياة التي جرفتها المجازر، والحروب والزلازل والمجاعات، وأتى الطوفان والتعصب السلطوي والديني على ما تبقى من أمل في الحب والحياة. إنها رحلة بحث شاقة عن المعنى الوجودي الذي انهار في انحدار رهيب من محنة لأخرى. هكذا تؤسس الرواية سرديتها في وجه الألم المروع والرهيب الذي فجره الشك الوجودي وانعدام اليقين، واعتلاء العدم شاشة الرؤية والتفكير، مما أدى إلى سيادة سطوة اللامعنى الناتج عن الطوفان الذي أتى على قرية حوش حنا، وقبله كانت المجازر والمجاعات والزلازل، والطغيان السياسي والديني والمجتمعي، والخيبات والخسارات، والسطوة المخيفة للحزن والألم إلى حد التلاشي والموت، وما يرافقه من محن مشبعة بدلالات الفقدان والتيه والضياع، وكل أحداث الرعب الرهيبة التي أرخت ظلالها على حلب/سورية. فسيّجت كل هذه المآسي القلب، وحالت بينه وبين عيش لحظة حياة، كفرح وحب مستحيل هارب، حيث كل شيء كان في حالة طوارئ قصوى. القارئ يجد نفسه أمام كم هائل من العذاب المروع، المتولد من سيرورة أحداث طبيعية وسياسية اجتماعية وتاريخية، خلفت مقدارا مهولا ومفزعا من الآلام التي أعدمت المعنى الوجودي، وهددت وجود الحياة في مدينة عرفت التنوع والتعدد والاختلاف الديني والاثني والمذهبي والطائفي، كمكونات اجتماعية وثقافية تفاعلت جدليا بتسامح يشوبه قلق الخوف والدونية والتمييز، والتهديد الوجودي لأتباع الديانات والإثنيات غير المسلمة. ” كان المسيحيون يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية لا يحق لهم السير على الرصيف، ويجب أن يهبطوا من الرصيف إذا قابلوا رجلا مسلما وعليهم ارتداء ألبسة خاصة تميزهم عن المسلمين، والأهم يجب دفع الجزية عن كل رأس مسيحي يريد الاحتفاظ بديانته”.58

فالرواية إذن، هي بمثابة التعبير الفني الثقافي لتجاوز محنة الشك والفراغ واللامعنى التي فرضتها عذابات الآلام التي سببتها تلك الاحداث الرهيبة التي أشرنا إليها. هكذا تشتغل الرواية كإجابة أدبية ثقافية لاستيعاب وتخطي حالات التمزق والتشظي والخراب والدمار والمجازر والقهر بمختلف أنواعه ومستوياته اللامعقولة التي هددت وجود الحياة، كما أعدمت دلالات معنى الوجود الإنساني. وبالتالي جعلت الحياة عارية على حافة الموت الذي يمكن أن يسدل ستار ظلامه وعدمه في أي لحظة فجائية. ورواية ” لم يصل عليهم أحد”  وفق هذا الفهم والتصور الجمالي والثقافي، و تبعا، للمعطيات الاجتماعية السياسية، و التاريخية التي تتناولها الرواية، والتي تشتغل بوصفها سياقات تؤطر سيرورة القراءة في بناء المعنى وإنتاج الدلالة، هي محاولة جريئة في تسمية الأشياء بأسمائها لوضع حد لسطوة الضياع والشك و اللامعنى الذي فجرته آلام طوفان النهر والزلازل والمجازر والمجاعات والتعصب الديني، والكراهية المشحونة بالضغينة ضد الحب الذي صار مستحيلا، والحياة التي سكنها اليأس والبؤس النفسي والعاطفي والاجتماعي إلى درجة الرغبة في الموت،  مع الاجهاز على التنوع والتعدد والاختلاف المنمي للذات والآخر…

بهذا المعنى نحن أمام شكل سردي يؤسس المعنى ويضع الدلالات حتى تتعرف الذات على نفسها، وتتمسك بمشروعها الوجودي في وجه الخراب والتدمير، حيث مخالب الموت خلخلت اليقين والتوازنات والتفاعلات ومختلف الجدليات الثقافية والاجتماعية والدينية التي ميزت ثراء التكون والتطور التاريخي لمدينة حلب/سورية. إنها محاولة فهم وبناء معنى المأساة التي انتصرت فيها الآلة الرهيبة للقهر والموت الاعتباطي الطبيعي، والسياسي الاجتماعي والديني، في مختلف صوره وتجلياته في الطبيعة، وفي الرؤى والأفكار والدلالات والعلاقات، وفي المتخيل النفسي والاجتماعي والديني لصناعة القداسة. إنها محاولة ترميم تشظي وتمزق اليقين والمعنى الوجودي الذي سقط وانهار كليا ولم يستطع الصمود في وجه وحشية العواصف المجنونة التي تحولت فيها الطبيعة حينا الى سيول عارمة من المياه الغاضبة الجارفة لكل ما يعترض سبيلها الهائج والعدواني. كما أخذت حينا آخر شكل زلازل رهيبة جعلت المدينة في رمشة عين مجرد أنقاض وخراب وجثث عطنة التهمتها الحرائق خوفا من انتشار الأوبئة التي كانت تطل برأسها من بين شقوق الكوارث المتتالية. وبين هذه المآسي كانت المجازر والكراهية والتعصب تعلن عن وجودها البشع والمدمر للهوية المجتمعية في التنوع والتعدد والاختلاف، الحاضن لقيم الحب والتسامح وعشق الحياة.

  • محنة الألم وعذابات حرقة الأسئلة

“أنت لست امرأة بل نهر أستريح في قاعه من حرقة الأسئلة.”200

لم تكن شخصيات الرواية في أي فترة من حياتها بعيدة عن محنة الألم، فهي كانت تتوارث هذه المحنة بشكل أو بآخر. حيث نتعرف عليها منذ الصفحة الأولى، وهي تعيش تجربة ألم الطوفان الذي أتى تقريبا على قرية حوش حنا بكاملها. فوجدت الشخصيات الرئيسية نفسها في خضم محنة قلبت حياتها رأسا على عقب، على مستوى الأفكار والرؤى والدلالات، والتصورات والمعتقدات، والعلاقات الاجتماعية، كما على مستوى نمط الحياة والرؤية الوجودية الى الذات والأخر والعالم. هكذا ” أصيب حنا بذهول تام ظن للحظة أنه فقد النطق… فكر أنه أصبح مرة أخرى وحيدا دون عائلة”2. فبعد نجاته من الموت في مجزرة ارتكبها الضباط العثمانيون في حق جميع أفراد عائلته. ” صدم حين رأى جثة والده كابرييل كريكورس مرمية على حمار، وهو يعض بفمه المرتخي الشفتين على عضوه المقطوع… هذه الصورة لازمت حنا طوال حياته، لم يفهم لماذا يبصق الناس على رجل ميت.”39 وجد حنا، الآن، نفسه أمام طوفان فجر محنة ألم أخرى زلزلت أعماقه، وغمرته بعقدة الذنب والتأثيم. ” شعر بالذنب والحنين لابنه ووجه زوجته اللطيف التي احتملت حياتها معه.”7 فأمام الموت كان شخصا هشا مرعوبا وقد تملكه الفزع، وانسد الأفق حالكا في وجهه. لذلك ” شعر حنا أنه عالق في نفق مظلم، يسمع صوت تحطم عظام كائنات منقرضة تحت قدميه. لم يحتمل زكريا رؤيته خائفا الى هذه الدرجة”2. هكذا كان حنا عاجزا عن فهم معنى الطوفان الذي أتي على اليقين والمعنى الوجودي للإنسان في رمشة عين، ومضى النهر كعادته في سبيله” كأنه لم يفعل شيئا”2. وإزاء هذا العجز في فك لغز غياب المعنى لما حدث في هذا التحدي الذي نصبه الموت في وجهه، وجد حنا نفسه غارقا في عقدة الذنب والحساب العسير مع الذات، وهي تحفر أسئلتها المحرقة في دواخله. حيث كان لمشهد، أو تجربة الموت المفزعة دورا في بروز نوع من النقد الذاتي العنيف تجاه الذات.” رأيت في منامي وجهي القبيح مرة أخرى، كان جسدي منهكا، تغلغلت فيه رائحة الموتى. الدفن لا يعني نهاية الموت.”34 فقد تملكته أسئلة الموت إلى درجة قصوى. ” شعرت لأول مرة بطعم الموت يسري تحت جلدي، يجول في أرجاء جسدي.”34 وهذا العسر في الفهم والمعنى هو ما ورطه في محنة الألم خائفا مذعورا أمام أسئلة عميقة انفجرت فجأة في نفسيته، وهي تضع ذاته كمشروع وجودي إنساني على عتبة مقصلة الموت التي لا ترحم الإنسان، خلال تفكك وتمزق هويته الفردية وحياته الشخصية، وهو يعاني من فقدان الفهم والمعنى، وضياع دلالات البعد الوجودي للحياة. ” تحولت ساعات نومي القليلة الى كوابيس رهيبة، أنهض كل ليلة من فراشي كميت، أسير في الغرفة، أشعر بخوف من الخارج، وتربص النهر بي. كل شيء كارثي من حولي، لا أستطيع شرح أي شيء لزكريا كي لا أزيد همومه، خسر ابنه أيضا، وعلى كتفيه الصلبتين يحمل آلامنا المقبلة، أراه يسير في الأرض بخطى ثابتة، قويا كبغل، يلملم ذاكرتنا كي يدفنها.”35

وتجربة محنة الألم نفسها عاشها زكريا الذي رافقته رائحة الموتى الى الأبد، وهو يرى التحول  السريع والرهيب لزوجته، واستسلامها لصورة الموت التي نشرها الطوفان بشكل فظيع تجاوزت طاقة الانسان، وقدرته على الفهم و القبول والتقبل و التحمل، خاصة وأن أسئلة هذا التغير المخيف لزوجته ” شاها” ظلت عالقة، ولا يمكن ربطها بصدمة الموت.” الطوفان لم يأخذ ابنهما فقط بل دمر ما بقي من شغفهما وحبهما… لا يمكن لرؤية الموت أن تحول شخصا في ساعات قليلة إلى كائن آخر، عيناها الضاحكتان غارتا، تحولتا إلى حفرتين من دم متختر.”3 هكذا كان زكريا يتجرع مرارة الألم، ويتجشم عناء حرقة الأسئلة التي خلفها الدمار النفسي الذي سببه الطوفان لدى كل الناجين. ” الطوفان دمر حياتهم ولا أمل في النجاة، النخر العميق في أجساد وأرواح الناجين القلائل أصابه أيضا.”28

لا شيء يبعث على الفرح والأمل في حياة شخصيات الرواية. مسارات مرعبة، وأقدار تراجيدية مفعمة بالألم واليأس والخيبة. من وليم عيسى إلى عائشة المفتي، وبين مريم ووليم، سعاد وحنا، دون أن ننسى أم الخير ومارغو التي وجدت نفسها في آخر المطاف” تحتضن تمثال العذراء بين يديها وتطلب الموت من الرب.”61 حيواتهم جميعا تنتظر كانت حتفها على أحر من الجمر، وهم يطلبون من الرب أن يستعجل موتهم، ويعلنون دون مواربة شغفهم بالموت.

خوف ورعب وهروب من الموت أتت به مسارات حياة تكتنفها المعاناة، وتُحايثها لعنة الخسارات، ودلالات الفقدان. بالإضافة الى مجازر رهيبة كما عاشتها مثلا مارغو وهي طفلة صغيرة في الموصل، فكانت حياتها مثقلة بذاكرة القتل والموت الذي يترصد خطواتها. وتعذبها الحياة في انتظار موت يكون خلاصا من محنة الألم التي ظلت تطاردها عبر منعرجات حياة لم تكن كالحياة. ثم عاشت تجربة الهروب مرة أخرى من موت محقق بسبب المجزرة التي طالت عائلة حنا. حيث استطاعت تهريبه الى بيت العائلة المسلمة لأحمد البيازيدي. ” مشكلة مارغو التي لا يعرفها الكثيرون هي ذاكرتها التي مازالت مثقلة بمجزرة الموصل التي أقدم فيها الإنكشاريون على ذبح خمسين عائلة سريانية وتهجيرهم من منازلهم، رموا جثثهم في مقبرة جماعية مجهولة. شعرت بأن تاريخها يتكرر بحذافيره، هي أيضا كانت فتاة صغيرة في عام 1834 ونجت بأعجوبة من المجزرة، لم يبق أحد من عائلتها.”40 وكل الشخصيات الرئيسة والثانوية في الرواية وجدت نفسها في عذابات الألم والموت السلطوي، والاعتباطي الطبيعي الذي كانت وراءه الزلازل والمجاعات، بالإضافة إلى الحروب العثمانية (السفربرلك). جميعهم دون استثناء يحيط بهم الألم والخسارة، ويقطفهم الموت في منتصف الطريق، كما فعل مع رضية أم زكريا التي كانت تتجنب قصص الأموات بسبب قسوة ما عانته في حياتها من خسارات. بالإضافة الى عائشة زوجة يوسف التي رحلت قبل الأوان، في وقت كانت نفسيتها تتمزق من شدة الألم والخيبة والغصة العميقة في القلب جراء الإساءة التي تعرضت لها من قبل مريانا. هذه مجرد إشارات على سبيل المثال لا الحصر لبعض شخصيات الرواية التي تألمت قهرا وظلما وفقرا وجوعا وخوفا وعشقا وحبا… تبعا لمصائر تراجيدية مروعة سيّدت لحن الفجيعة والحزن الوجودي الذي غطى كل الممرات الممكنة للحب واليقين والطمأنينة والسكينة للنفس البشرية، أمام سيرورة لعنة المآسي والأحزان التي تتكاثر باستمرار، مانعة فرحة الحياة وانعتاق الوجود الإنساني من سطوة التغلب والتسلط السياسي، والقهر والكراهية والتعصب الديني…

إذا كان حنا قد تعامل مع صدمة المجزرة التي أنهت وجود عائلته بنوع من الاستخفاف من رعب الموت، سالكا سبل المتعة واللذة. غارقا في اللهو والقمار والجنس بعيدا عن أسئلة الموت وسطوة المعتقدات الدينية التي تقلل من قيمة المتعة واللذة والفرحة وأخذ النصيب من حصة الدنيا والشيطان، دون خشية من لوم بعض رجال الدين الذين يحتقرهم ولا يكن لهم الاحترام والتقدير. فإن كارثة الطوفان التي انهار فيها المعنى الوجودي وساد فيها الشك الذي فجرته حرقة الأسئلة، وهو يرى قرية حوش حنا أثرا بعد عين، دفعت بحنا في درب الآلام بحثا عن معنى الطوفان الذي رأى فيه عقابا وإشارة ربانية للتخلص من شخصيته القديمة العطنة. ” شعر حنا بأن الطوفان لم يغرق زوجته وابنه فقط، لكنه أغرق ماضيه المتهتك، الصاخب، حياته الكاملة.”6 لذلك رأى في الطوفان ولادة جديدة لرؤية الذات والآخر والعالم، بشكل نقيض لكل ما عاشه سابقا من تهتك واستهتار وفقدان للمعنى. وفي سياق بحثه عن معنى الطوفان، وما يخفيه من أسئلة جذرية، بوصفها مراجعة نقدية لمسار حياته، حاول الخروج من هذا النفق المظلم، من خلال عكس، وقلب جدل حياته من المتعة والبحث عن اللذة، إلى البحث عن الخلاص بالسير في درب الآلام، في نوع من الزهد الأقرب إلى التوحد الصوفي في معانقة الأسئلة المحرقة. وبذلك منح معنى محددا للطوفان انقاذا لنفسه من هول الكارثة التي تلبس فيها الموت كيانه. ” نعم لم أمت لكنني أعيش بامتياز الأموات… في اليوم الأول تقرحت قدماي، كان الألم يصعد إلى روحي، يغسلها، يرمي بالمياه القذرة ويدفنها في أعماق الأرض.”38 هذا ما جعله يؤسس فرضياته التأويلية لمعنى الطوفان انطلاقا من سجله الثقافي الاجتماعي والديني، وتاريخه الفردي الذي شكل هويته الشخصية، وحدد روابطه المجتمعية وعلاقاته مع الذات والأخر والعالم، خاصة مع زوجته التي أثرت فيه رسالتها في الحياة كثيرا، واتخذ الآن رسالتها هذه موجها ارشاديا في خوضه محنة الألم، بوصفها ولادة جديدة تسمح له بالتخلص من حنا القديم. ويتخفف من تاريخه الثقيل بالعربدة والقذارة التي غرق فيها في قلعة اللذة التي بناها. يعرف حنا جسامة التغيير وما تطلبه الصيرورة لسلخ ليس فقط جلده القديم، بل أيضا ما ترسب في جوفه الداخلي من كبرياء وقوة فاجرة. ” كنا أقوياء جدا، والآن أنا ضعيف جدا، أسير كمشرد على ضفة النهر العظيم، الذي قتل بجبروته كل هؤلاء البشر، يتربص بعضنا ببعض، لا تغشني وداعته، كما لا تغشه وداعتي. التخلص من تلك النفس الآسنة سيحتاج إلى وقت طويل، لا يمكن أن تنقر بإزميل جبلا تكون عبر مئات السنين وتهدمه، تحتاج إلى نقر يومي، بهدوء وأناة وصبر. كنت أمرن نفسي على هذا الصبر الذي سأحتاج إليه في طريقي لدفن ذاتي القديمة.”38 تبعا لهذا الفهم والتأويل لمعنى الطوفان رسم سبلا للاشتغال على الذات، وخوض المعركة الداخلية للتغيير. واثقا من أن الذي لا ينتصر على ذاته ينهزم بسهولة أمام أي شيء آخر. هكذا تغيرت قناعاته وأفكاره من اعتبار اللذة ينبوعا للحياة الى التخلي عن كل شيء تقريبا. فسلك طريق الحقيقة كما قال يوسف لزكريا بعد أن رآه حافيا نحيفا شغوفا بالترحال، مكتفيا بالقليل، مع العلم أنه أحد الملاك الكبار للأراضي. لكن الطوفان منح معنى جديدا ونقيضا لحياته السابقة. ” كان يومي السادس في طريقي إلى حلب، الذي أكملته بخفة، لم أعد أشعر بآلام الطريق، أشواكه، صلابته تحولت تحت قدمي إلى رخاوة رائعة، وبرودة منعشة، كنت أشعر بأنه نبت في ظهري جناحان يحملانني إلى حيث أريد… سأقضي عمري كله أسير حافيا، أقتات هذه الطعوم الرائعة للخضار والفواكه المجففة، معترفا بيني وبين نفسي بأن الذي كنته لا يكفيه الكثير الذي يمتلكه، تثيره رغبة الانتقام، ويخيفه الفقر، كنت أغص بالأشياء التي مازالت تجرحني، تطوقني وتخنقني، الآن يكفيني القليل، بل اللاشيء، مادام هناك نهر ورياح وتراب لن أخاف من أي شيء، لست هدفا لقطاع الطرق والقتلة، أنا ميت، لا يفيد القتلة رجل ميت.” 36و37

  • تمخض الوهم فولد قديسا ميتا

في سياق بحث حنا عن معنى الطوفان الذي ولد في نفسه أسئلة الحياة والموت، بدأت حكايات مارغو حول مذابح السريان والمقابر الجماعية تستحوذ على تفكيره. أخذ يفكر في نوع من رد الاعتبار لمن مات في مجازر مروعة بسكاكين القتلة من “البشر البؤساء، لم يدفنهم أو يصل عليهم أحد.”107 هكذا اتجه تفكيره نحو الماضي للعيش مع الضحايا، بعيدا عن حسابات القوة والسلطة والقداسة التي كانت تقض مضج مريانا، وهي تضع يدها في يد الكنيسة الجشعة. لم تكن ترى في درب الآلام الذي اختاره حنا، كرجل زاهد من كل شيء، إلا مشروع قديس. لذلك كانت تنسج هوامات القداسة، حيث يكمل الرواة شطحات وهمها الذي انبلج فجأة في نفسيتها المنهكة بالخسارات والآلام الدفينة. نزوة السلطة كانت تحفر أعماقها، في الوقت الذي كان حنا يحلم بصفاء الايمان الروحي المشحون بالزهد بعيدا عن خدع العبادة والتدين. ” شعر بضيق من أسئلة الخوارنة…قال: إن إيمانه الذي لم يكتمل مختلف عن إيمانهم، مازال يعيش لحظة المخاض القاسية…فكر أنه يستطيع اكمال مشروعه، سيرمم الكنيسة ويمنحها للمؤمنين، ويبني ديرا يكون مكانه النهائي، يعيش فيه مع أصدقائه الذين سيصلون الى لحظات الزهد التي وصل إليها. سيكون الدير مليئا بالعاجزين، والرجال الذين يعانون من فرط الخيال، ولا يصدقهم أحد حين يتحدثون عن أجسادهم المفككة التي تسير في الطرقات.”107 تبعا لهذا الأفق سلك طريق الترحال بحثا عن ذاته، دون أن يشغل باله بأسئلة الإيمان والإلحاد. ولا بكل ما هو مسطور حول المسيح ومعجزاته. لذلك لم يكترث بوهم مريانا في تطويبه قديسا، ” لأنه لم يكن في حياته معجبا بالمعجزات، بل كان شغوفا بالحياة المثقلة بالأخطاء والحماقات… لم تعجبه سخرية الرهبان… ولم يعجبه التلميح إليه بأنه يشتري القداسة بنقوده… لا يملك طاقة على نقاش أناس يعتبرون أنفسهم يمتلكون الحقيقة، كان يتمنى لو أنه زار هذا المكان قبل سنوات قليلة، لم يكن يتوانى عن دق عنق بعض الخوارنة والبصاق في وجوههم الساخرة، والتبول على قداستهم، لكنه الآن يفكر في أشياء بعيدة لا يريد لأحد إفسادها برأيه. البحث عن الذات لا يحتاج الى وضعها على طاولة طعام قذرة أمام العامة. كل ما تحتاج إليه هو التكور على نفسك ورمي أشلائها على جدران غرفتك.”108  و كان الأب إبراهيم الحوراني مرشده الروحي في السفر والترحال بحثا عن الذات. يؤطر حنا شغفه وهواجسه بالأسئلة المحرقة للحياة والموت، بعيدا عن أوهام القداسة التي طوقته بها مريانا لتطويبه قديسا بالتحالف مع رجال الدين والكنيسة لغرض في نفس يعقوب، أي التحكم في معتقدات الناس، وتكريسهم للبؤس النفسي القذر. فهم يستغلون بشكل بشع واقع الناس البؤساء والمرضى، ويتاجرون بآلام المعذبين. لهذا كانت رؤيته للتغيير، الذي يريد عيشه على مستوى العلاقة  بالذات والآخر والعالم، مختلفة عن الوهم الذي تمخض في جوف مريانا فولد قديسا ميتا، حيث ” فوجئت بجوابه ساخرا منها حين قال لها: كم هي مكلفة إذن فكرة صناعة القديس.”109 لكن مريانا لم تستسلم بسهولة، بل مضت في طريق تطويبه قديسا، وهي تحاصره بكل ما من شأنه من القصص والروايات والأخبار التي تجعله مشروع قديس، متورط رغم أنفه في آلية صناعة القديس والمعجزات. إلا أن إرادة حنا كانت أقوى من الوهم الذي احتضنته ماريانا طويلا. ” قلت للأب إبراهيم: القداسة وهم، عبرت عن سعادتي بأن مشروع ماريانا المزيف لن ينجح في جعلي قديسا.”123 بالفعل حنا كان واثقا من نفسه، وهو يرى الموت كالطوفان يحصد أرواح العشرات من الشباب في الحروب والمجاعات التي نزلت بثقلها المخيف على المدينة، مما أدى بحنا الى الثورة على نفسه بشكل جذري للتخلص من وهم العزلة والتأمل العاري من أية مصداقية أخلاقية ودينية وواقعية، أمام الرعب الذي نشره الموت في الشوارع.” لأول مرة شعرت بسخافة ما أفعله، تلك العزلة القسرية، تلك التأملات في أصول خلق الكون، ومفهوم الله والجمال والموت، ها هو الموت يسير بقدمين حافيتين، يدب على الأرض قربي ويحصد آلاف الأرواح… ضحكت في سري وأنا أتخيل ورطة ماريانا وهي تتحدث بحماسة عن قديس وهمي، لا يمكن التعاطف مع من يموتون جوعا سوى بمشاركتهم الموت”128.

******

الهوامش:

خالد خليفة: لم يصل عليهم أحد، هاشيت أنطوان، 2019.

قد يعجبك ايضا مشاركات هذا المؤلف

أضف تعليق

Share This