لم يصل عليهم أحد: نسيج عنكبوت التراجيديا (ج2)
تمهيد
“فكرت في صالح العزيزي ولحقه بحكمت ضاشوالي وقتله، حكايته لم تتركني، كنت معجبا بشغفه، لقد انتقم لنا. أفكر بقوة الحب حين تحول الكائن من خادم إلى شاعر جوال زاهد، ثم إلى واش ثم إلى قاتل ثم إلى منتحر ثم إلى إمام العاشقين.”123
ليس غريبا أن تؤسس رواية ” لم يصل عليهم أحد” بنيتها السردية والدلالية، شكلا ومعنى، من خلال الصراع والتناقض في أبعاده التراجيدية الرهيبة. حيث تحضر الحروب والمجاعات والتسلط والقهر السياسي والديني، والاحتلال العثماني والفرنسي، والطوفان والمجازر ضد الأرمن والسريان، والمسيحيين بشكل عام. والحضور القوي للتحولات المجتمعية بفعل صدمة الحداثة الأوربية، وما خلفته من رضات اجتماعية وثقافية، تفاعل معها الافراد والفئات المجتمعية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا بشكل مختلف إلى درجة ممارسة العنف الرمزي والحركي بقمع حريات وقناعات وتصورات واختيارات الاخرين. سواء كان ذلك من طرف قوة الاحتلال العثماني بشكل سياسي مباشر، أو من خلال اعتمادها أيديولوجيا على التيارات الدينية المتشددة. وضمن هذه التناقضات والصراعات كان طبيعيا أن تحضر جدلية الحب والموت، التي هي تعبير صريح عن الترابط العضوي لجدلية الموت والحياة. لأن في هذا كله تكمن قوة الروائي في امتلاكه الحس التراجيدي في رؤية الشر في حضوره الفاعل كجزء من كينونة وشمولية حياة الانسان. هذا العمق هو ما يشكل فنية وجمالية الرواية، في كشف الظلال والمناطق المعتمة في حياة شخصيات الرواية، وهي تتألم وتعاني، وتصبر وتقاتل، وتحزن وتفرح، وتتراجع خنوعا وخضوعا وتتقدم باستماتة دون ترضيات أو تنازلات، وتفرح بالحياة وتعيش الموت في أسوأ معانيه كالطوفان والمجاعات والمجازر، أو على مستوى الذات وهي تتغير باستمرار حيث تتخلص من جلدها القديم، وكل الأشياء الميتة في النفس والفكر، والرغبة والجسد. كما تعيش الحب بكل أخطائه وزلاته في المتعة واللذة، أو في أسمى معانيه الدينية والعاطفية والانسانية، مشحونا بالمحبة والثقة في النفس، وأمل الخلاص. أو بالآلام والخسارات الكبرى، إلى حد الانهيار والتلاشي. لكنها- الشخصيات- كانت تواجه ما يعترضها من جدران الكراهية الدينية، والعرقية والطائفية، والثقافية والاجتماعية والتسلطية، دون خوف من الموت والنهايات الحزينة المأساوية، كما حدث لكل من وليم عيسى وعائشة المفتي. وإلى حد ما بين وليم البيازيدي ومريم، أو بين حنا وسعاد، وزكريا وشاها…
مهما كان الشر، كصراعات وحروب ومجازر، ذلك الوجه البشع والمرفوض الذي يستنكر الناس حضوره القذر والمروع في رسم وتحديد مصائرهم، ووضعهم في أقدار تراجيدية مشبعة بالأحزان والآلام، إلى حد طلب الموت للتحرر من وطأة الخيبات والخسارات التي تعذبهم، فإن جدلية الموت والحياة تفترض حضوره – الشر- الفاعل والحيوي في جعل حياة الناس تأخذ هذا المعنى دون آخر، حيث لا يمكن للإنسان أن يهرب من الصراعات والتناقضات التي تميز حياة المجتمعات أفرادا وجماعات، بحكم عوامل تاريخية اجتماعية ثقافية، و سياسية اقتصادية. فتبعا لهذا الوعي والفهم ينبغي مقاربة المسارات والتحديات، والعوائق والاكراهات التي أطرت السيرورة التاريخية، والروابط والعلاقات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية…، لشخصيات الرواية، وساكنة مدينة حلب/سورية، في محاولة عيشها الحياة كتجربة حب مستحيل.
4 – الحب وقراد الخيل
” لقد دفنا أحبابنا كما قلت، مات وليم عيسى وحبيبته عائشة المفتي، مات عزار صديقنا، مات ديفيد، مات عارف شيخ موسى، مات أبونا أحمد البيازيدي وقبله ماتت رضية أمنا، وقبلهم جميعا ماتت أمي وأبي وأختي وإخوتي الأربعة، كثيرون من أحبابنا ماتوا، ظننا أننا نجونا من الطوفان، عقدنا صلحا مع الموت لكنه غدرنا بموت عائشة، لم أصدق برودة جسدها، وابتسامها الثابتة، لم أصدق وجهك الأصفر ودموع يوسف وابنتها دلشان وابنها حسكو، مضى كل شيء ككابوس، كنا نظن أنها لعبة اخترعتموها لاستعادتنا أنا وزكريا، حين مددناها في قبري بعد تعديله ليناسبها، لم يعد لدي شيء أمنحها إياه سوى قبري، وبعد مغادرتكم شعرت بفراغ هائل داخلي، بقينا أنا وزكريا نلتقي فجرا عند قبرها، لم يعد لدينا شيء نقوله، يسير زكريا ببطء، يساعده بولس الذي أصبح عجوزا أيضا، منذ تلك اللحظة فكرت للمرة الأولى بأنني كنت سبب خساراتنا جميعا، دخلت باب منزلك قبل سبعين سنة وخربت حياتكم، وها أنا سأخرج للمرة الأخيرة من الباب نفسه، تاركا ورائي الجميع حطاما. حتى أنت محطمة، لم يبق منك شيء سوى الذكريات.”199
اخترت هذا المقطع رغم طوله من رسالة حنا إلى سعاد، لأنه نموذجي ويلخص بشكل مكثف الترابطات والمسارات المؤلمة، في الحب والحياة والموت، التي عاشتها شخصيات الرواية، وفق أقدار تراجيدية مرعبة ورهيبة، لم تكن فيها كل الشخصيات سلبية في الاشتغال على الذات وبناء الشخصية، وتأسيس الروابط والعلاقات، وتحقيق التفاعلات ذات التأثير والاعتماد المتبادل. يضع حنا هنا الأصبع على جراحات السرد الموشوم بحرقة الهزائم والخيبات والفقدان، والفشل الذي مُني به الحب المستحيل، وانتصرت الحياة من خلال التحولات العميقة التي مست المجتمع والذاكرة والهوية والتاريخ، وعرت بشاعة قهر المرأة، من خلال حب ذكوري يسلخ عنها إنسانيتها بازدواجية مقرفة في اعتبارها قديسة وعاهرة، طاهرة ومدنسة…
- سعاد وحنا
رغم ما كان عليه حنا على مستوى الوعي والسلوك والافكار من قدرة وجرأة، في تحدي رجال الدين الذين يراهم هو وزكريا مجرد لصوص يسعون إلى السلطة والمال.” لم يواجها كصديقين لحظة خطيرة كهذه، كانا يعتبران رجال الدين كقراد الخيل، تمتص دماء تلك الكائنات الجميلة، كثيرا ما سخرا من مشايخ وخوارنة.”115 وعاش حنا حياته على إيقاع خرق المألوف وانتهاك المحظور بحثا عن المتعة واللذة، دون خوف من حصة الشر والشيطان. بل كان ” يحب الشر والشيطان أكثر من الملائكة الذين يطوفون بسذاجة حول رؤوس الأطفال الأبرياء.”108 فإنه كان في نظر سعاد جبانا وعاجزا عن عيش تجربة الحب التي تعتمل في أعماقه وتزلزل كيانه مخلفة اهتزازات مؤلمة تعذبه باستمرار. كان ضعيفا وهو يستبطن حبه الدفين تجاه أمه، الشيء الذي أصابه بنوع من الصد العاطفي والجنسي، أي عدم قدرته على التحرر من اجتياف حب الأم الذي حال بينه وبين سعاد كحرام/طابو لا يمكن لمسه والتفاعل معه جسديا. لذلك عاش عذابه النفسي والفكري في حضن “شمس الصباح” الفتاة التي أنقذها من وكر الدعارة استجابة لصورة الأم كمكبوت دفين. فكانت في نظرته ونفسيته العميقة رمزا تعويضيا لدلالة فقدان الأم. وأسكنها قلعة المتعة واللذة والقمار. لكن التغيير الذي عاشه بعد الطوفان دفعه إلى اغتصاب عذريتها متخلصا من عقدة الحب الأمومي الذي حال بينه وبين عيش الحب بصورة شاملة. ” تنظر شمس الصباح إليّ غير مصدقة، لا تستطيع الاعتراف بأنني لست الشخص الذي كنته، لكنها تبقى المرأة الأكثر قربا مني، منحتني في لحظات احتضانها تلك الرائحة المفقودة لأمي، بعد تصديق أنها أمي.” لكن أمام فقدان معنى الطوفان، معنى الحياة، اهتزت نفسية حنا، وطاردته حرقة الأسئلة بوصفها مراجعة نقدية لكل حياته الماضية ولشخصيته. لهذا تغير تعامله ونظرته لشمس الصباح ” تركتني أفتض بكارتها… قالت كم أحبتني، كم انتظرت هذه اللحظة، ولم أقل لها كم أنا فاسد، أفسدت حياتها للأبد، حولتها من أم إلى عاهرة. قد لا تكون عاهرة ولكنها ليست قديسة كما كانت ولم تعد أمي. قتلت أمي. ما أصعب أن تقتل أمك.”37 هكذا تتضح لنا شخصية حنا التي جعلته جبانا في علاقته العاطفية مع سعاد التي تركها تتألم وتعاني حبا مستحيلا. حاولت بكل الطرق الممكنة مساعدته على التحرر من العبء الثقيل الذي خلفه الفقدان الرهيب للعائلة، خاصة الأم مما أفقده الطمأنينة القاعدية التي يحتاجها كل إنسان في تاريخه الفردي والشخصي والعلائقي والمجتمعي. لكن باءت كل محاولاتها بالفشل” في أخر زيارة له قبل الطوفان بشهرين أعادت تذكيره بأن يتعاطى معها كامرأة وعاشقة مهزومة، لا تعنيها المبررات الأخلاقية، والخوف من الطائفة. كانت تحدثه بلهجة قاسية، تخاف أن يمتلك الشجاعة ويتقدم نحوها، يمسكها من شعرها بقوة، ويطرحها على السرير، ويلجها دون استئذان، كانت تفكر بأّنها لن تقاومه، ستستسلم لأصابعه الرقيقة التي تعشقها، لكنه كان يقف أمامها مسلوب الإرادة، يشعر بلذة حين ترفع صوتها في وجهه، وتوجه له الإهانات، وتتحدث عن جبنه، ينتشي حين تصل إلى الحديث عن شجاعة وليم عيسى الذي قام بالفعل الخارق.”21 هذه المعطيات تسمح لنا بفهم هذا الحب المرضي، بينهما، الذي تنقصه الإرادة الحرة المستقلة القادرة على التحكم بزمام مصيرها وتحديد نمط حياتها في القدرة على عيش الحب بشكل صحي إيجابي، بدلا من اجترار لعنة الألم وما ينتج عنها من عذابات لهما معا. لم يكن حنا يحمل مقدارا من الاحترام والتقدير للمرأة التي كانت في نظره مجرد دنس ومتعة عابرة. لم يكن في مستوى جرأة سعاد في التعبير عن حبها وقناعاتها بمعزل عن كل الاكراهات والتقاليد والرؤى المجتمعية ذات النظرة السلبية الاحتقارية للمرأة الحرة المستقلة التي تتمرد على القيود، وتنتهك الطابوهات، وتخرق المحظور. عملت المستحيل من أجل نجاح علاقة الحب بين وليم عيسى وعائشة المفتي. شجعتها على منح وليم عذريتها دون خوف من سطوة المجتمع اجتماعيا وثقافيا ودينيا في إلغاء كينونة المرأة واختزالها في العذرية والعفة التي تورث ازدواجا وانفصاما في شخصية المرأة. ” شجعت عائشة المفتي على فقدان عذريتها، همست لها بأنه لا أحد جديرا بمنحه هذا الشرف سوى الرجل الذي نحبه. وحين سألتها عائشة المفتي: هل فعلت ذلك؟ قالت بأسى: إن من أحببته كان جبانا وهرب من الحب”80. سعاد تحدت تاريخا عريقا من التسلط الذكوري المتجذر في النص الديني، وفي التصورات والمعتقدات التي تقلل من شأن وقيمة المرأة، وتتحكم في لباسها وتفكيرها وطموحاتها. وتبخس حقوقها بصورة تمييزية إلى درجة التعامل معها كشيء، دون السماح لها بأن تكون ذاتا حرة مستقلة في اختياراتها ومواقفها وعلاقاتها. حيث تم تسييجها وتقييدها بمجموعة من الأدوار والوظائف. هكذا رفضت سعاد مجموعة من الرجال الذي تقدموا لخطبتها، كما رفضت أية وصاية عليها، خاصة حين تدخلت عمتها أمينة في حريتها وهي تهددها بالتكفير والقتل والسفور اللاأخلاقي، وبالتشويه لصورتها كامرأة متحررة من الحجاب، متسامحة مع نفسها والآخرين، في تعاملها مع باقي الطوائف والديانات. فقد اتخذت أصدقاء لها من مختلف الديانات. ” تجاهلت باقي نساء العائلة، ولم تكترث لانتقاداتهن التي تصفها بامرأة عديمة الشرف تجالس الغرباء، وتفاخر بصداقتها مع المسيحيين واليهود، والفتيات السافرات.”28 ولم تكن تشعر بأي نقص وهي تعيش حياتها بشكل مستقل في التعبير عن مواقفها وأفكارها ومشاعرها. لذلك كان طبيعيا أن تحاسب نفسها نقديا في علاقتها بحنا. ” فكرت بأن الحب الصامت يعيش وحيدا كطفل ضليل، وأعمى، شعرت بنفسها تقع في هاوية الشفقة التي تحاشتها طوال عمرها… قالت له سعاد دون مواربة إنه جاحد، وأناني، وغير جدير بالحب”60و61
ما كان لست حسنية، التي تحتقر وتشتم علنا رجال الدين المنافقين، أن تدرك حجم الألم الذي كانت سعاد تعانيه إلى حد الموت، إلا لأنها مرت بتجربة زواج فاشلة انتهت بالطلاق من ابن عمها موظف الأوقاف. ” وصفت حياتها معه بالخراء. لم يجرؤ الشيخ الفاضل على التمسك بها. اتهمته بحب الصبيان.” 65 لهذا تفاعلت مع سعاد حين رأتها تتألم بسبب خطئها في أنها أحبت رجلا يعشق العاهرات. ويخشى انتهاك المحرم، خاصة وأن عائلة سعاد احتضنته كطفل مسيحي هارب من مجازر العثمانيين. فهو يرى نفسه واحدا من أبناء البيازيدي. وبالتالي لا يمكنه حسب تفكيره المس بالحرمات ونسيان الفضل والجميل، والرعاية والمحبة والحنان الذي شملته به العائلة. ” يشرد حنا وحيدا مستعيدا صورة سعاد التي تمنعه من تركيب صورته كعاشق، استسلم لفكرة العيب وخيانة تاريخ العائلة التي ربته كفرد منها، استقرت صورتها أختا له، محرمة، ولا يجوز حتى في أحلام اليقظة التفكير في نهديها الطافحين ورائحتها.”97
لهذه الاعتبارات والمسوغات كانت علاقة الحب بين سعاد وحنا فاشلة. تجارب كل من سعاد والست حسنية أثبتت فيها المرأة قدرتها على تخطي كل هذه المبررات الواهية والمثقلة بالأكاذيب والطابوهات الزائفة. كما بينت لنا استعداد المرأة على المضي قدما دون خوف من الانتماءات الطائفية والدينية، ولا من القيم الثقافية والاجتماعية التقليدية التي تمارس الحجر والوصاية إلى حد القهر وهدر كيان المرأة الإنساني، ووأد أحلامها ومشروعها الوجودي في الحياة. وفي سياق هذا الصراع ضد المجتمع الأبوي الذكوري، والتسلط الديني والسياسي العثماني، يمكننا فهم روعة ومأساة تجربة الحب لكل من عائشة المفتي ووليم عيسى.
- عائشة المفتي و وليم عيسى
” شعر وليم بأن عائشة لن تكون عابرة سبيل في حياته، وهي شعرت بأنها تورطت في قصة من الصعب التكهن بنهايتها.”72
لم تكن عائشة المفتي فتاة عادية خنوعة وجاهلة، بل كانت متعلمة وتملك تجربة كافية في علاقتها مع ذاتها والأخر والعالم. اكتسبت تجربتها بفضل المعرفة والتعرف على الحضارة الغربية التي جعلتها تدرك تخلف الاحتلال العثمانيّ، وتكريسه للرؤى السياسية والدينية التقليدية التي تخدم تأبيد سيطرته واحتلاله. لهذا عملت عائشة على جبهات كثيرة التعليمية والاصلاحية والصحافية دعما لحقوق المرأة والتغيير. وسببت لأبيها متاعب كبيرة بسبب انتقادات المحيط المجتمعي الذي يسطير على وعيه رجال الدين “كان أبوها يشعر بالفخر…كان إخوته ينتقدونه ويحدثونه في تفاصيل الحكايات التي يثرثر بها سكان المدينة، عن فلتان ابنته، وعلاقاته مع جماعة عبد الرحمن كواكبي والملحدين والكفار الذين ارتفعت أصواتهم في الآونة الأخيرة، إلى درجة تشكيكهم ومطالبتهم بإصلاح الدين نفسه.” 82
يمكن اعتبار علاقة الحب التي جمعت بين عائشة المفتي الفتاة المسلمة الواعية والمثقفة، ووليم عيسى المسيحي المثقف الفنان، نموذجا حيا لعلاقة حب حقيقي تفاعلت فيه جميع العناصر الذاتية العاطفية والجنسية، بنوع من التكافؤ في الإرادة والاختيار واستقلالية القرار، مع التقدير والاحترام بينهما. والتشبث بالحب مهما كان الثمن الذي ينبغي دفعه، في وجه التقاليد والطائفية والاختلاف الديني، وضد القهر الاستبدادي. ” فكرت في أعماقها بأنها تستحق هذه الشراكة، لم تفكر في اختلاف الدين بينهما قالت في أعماقها إن المغامرة تستحق ذلك لقد وجدت هدفا عظيما تعمل من أجله.” 76 ونتيجة لهذا الانسجام المبدئي والعاطفي الجنسي بينهما انطلقا معا نحو تقويض وهدم كل ما يمكن أن يقف في طريق حبهما. لهذا تحدت عائشة المفتي سطوة ورعب الضابط حكمت ضاشوالي السفاح والمتسلط. ودعم الأب ابنته على هذا الاختيار الشجاع في الهرب، وعدم الخضوع والخنوع لإرادة هذا الضبط الذي أرادها عنوة وظلما زوجة له. انتصرت عائشة للحب وهربت برفقة وليم عيسى، من خلال الدعم والمساندة والمساعدة التي قدمها لهما الأصدقاء، حنا وزكريا، سعاد وسارة، وعارف. “السلطات اتهمت العاشقين بخدش الحياء العام والتآمر على الدولة وتواصلهما مع جمعيات سياسية تهدف لهدم منظومة الأخلاق الإسلامية… قال حنا لزكريا … إن الحجر الذي رمته عائشة المفتي ووليم عيسى كان ثقيلا وسيحرق المدينة، كثيرون استغلوا الحكاية ليثبتوا وجهة نظرهم، لم تعد عائشة المفتي تلك الفتاة اللطيفة التي أحبت صديقهما، أصبحت رمزا للتحرر والانعتاق لدى أصحاب نظرية التحرر من العثمانيين واللحاق بأوروبا، وفتاة منحلة يجب قتلها لدى أصحاب الإمبراطورية العثمانية.”87
وبالفعل النهاية كانت مأساوية ومروعة بعد أن تم البحث عنهما ومطاردتهما، ثم قتلهما رميا بالرصاص. فدفنا معا في قبرا واحد، لم يصل عليهما أحد، مثلما حدث مع ضحايا الطوفان والمجازر الدينية والسياسية.
- وليم البيازيدي ومريم
” سكان القرى أحاطوا به وسألوه إن كان يحتاج إلى أرض لدفن تابوته، شكرهم وليم بهزة من رأسه وتابع طريقه بعد استراحة قصيرة، كان يحتاج إلى الصمت، دوما كان يعتبر أن الكلام لا يليق بالعشاق المهجورين، من الصعب إعادة تأليف الحب وروايته على الغرباء.”185
مثلما رأينا في علاقة الحب التي جمعت بين سعاد وحنا، تورطت مريم في حب وليم البيازيدي الغارق في عوالم الدعارة الجنسية مع الكثير من النساء، في صورة أقرب إلى قصص زير النساء. كانت مريم كسعاد وجوزفين وشاها…، تدرك هذا الامتياز الذكوري الذي كان يعيشه وليم كنمط حياة وأسلوب في العيش يشبع في نفسيته نوعا من الرجولة والكبرياء والتميز. بينما كانت مريم تتجرع عذابات ألم الحب الذي تكنه لوليم بكل صدق لا يخلو من قساوة المعاناة في التقرير والاختيار بين الزوج التركي المسلم أورهان الذي ترى فيه ظلا وجدارا يمنحها الأمان. وهي الفتاة المسيحية الناجية من المجازر التي ارتكبها الأتراك في حق عائلتها والأرمن بشكل عام. وبين وليم العاشق الذي كانت تعيش معه تجربة حب وفق مواصفات وخصائص البيئة والثقافة الذكورية التي تغض البصر وتسامح زلات وأخطاء وتجاوزات العاشق. هكذا كانت تعذبها محنتها في الحياة كناجية من المجزرة، بنفسية مشحونة بالكآبة. ” لا يكفي نجاتك لتكون محظوظا بل تشعر بعطب حقيقي، لا ينجو منك أي شيء رغم أنك تتنفس وتأكل وتشرب، إنها رحلة تيه لا يمكن تقدير ألمها كما لا يمكن تلخيصها أو الحديث عنها بخفة.”156 وكمرمية في الدير تحلم بوهم الأمان مع رجل تركي تعذبه عقدة الذنب والجريمة التي ارتكبها بنو جلدته في حق الأرمن. فاضطرت إلى التخلي عن وليم، وتركه يعاني ألم الهجر والفراق. والغريب في الأمر أن سعاد هي التي حرضتها على هذا الاختيار، بعد أن لمست في عذاباتها العميقة حجم القلق والألم الذي يعشش في ذاكرتها، ولا يكف عن تذكيرها من حين لآخر بالمأساة التي عاشها الأرمن.
وانعكس هذا الهجر بصورة سلبية على حياة وليم، الذي وجد نفسه غارقة في المتعة واللذة والخمر، والقصص الزائفة رفقة صديقه بسام. مما دفعه إلى السخط على ماضيه كعاشق منبوذ، متروك للتيه والضياع. ” لم يعد يرغب صورته القديمة كعاشق بائس تهجره من أجل رجل تصفه سعاد بالرجل النيئ التافه الذي لا طعم له.”165 هكذا كانت حياتهما معا محفوفة بالآلام والعذابات، والكثير من الخسارات، وهما يتجهان معا نحو التلاشي والتفكير في الموت. ” شعرت بحزن شديد لصورة ملاكها -وليم- الذي يبدو فيها رجلا مهزوما يبحث عن الموت… غيابها عنه لمدة سنة كاملة دون أي سبب كان قاسيا، في هذه اللحظة شعرت بأنها تحبه إلى درجة العبادة، لكنها أفسدت كل شيء، لا تريد له أن يموت قبلها، لن تستطيع احتمال فقدانه… بكت أمام سعاد التي نظرت إليها بتعاطف كبير، أخبرتها ببرود: لقد عاد إلى الدير، ذهب ليموت هناك.”186
عندما نتأمل صورة المرأة في الرواية نجدها غارقة في القهر والهدر، مغيبة في قيمتها الوجودية الإنسانية. تعيش مأساتها في ظل الامتياز الذكوري الذي يسمح للرجل بعيش مغامرات المتعة واللذة، والعلاقات الجنسية والعاطفية العابرة. دون أن ترى المرأة في ذلك ما يمس الحب الحقيقي، حيث تعيش الوفاء للرجل وخيانة جسدها ونفسها وفكرها وحريتها واستقلالها وكرامتها. بل تحلم بعشق جنوني تجاه هذا الرجل الغارق في أحضان العاهرات. لقد وضعت المرأة في مواقف مختلفة بين الهدر الذاتي إلى حد الاستيلاب الإيديولوجي كما هو الشأن عند العمة أمينة التي كانت يدا من حديد تكفر وتحلل القتل باسم الدين. كما رأينا المرأة المتمردة ذات المواقف الجريئة مثل سعاد وعائشة المفتي والست حسنية. إلا أن هناك حالات مؤلمة في غاية البشاعة، حيث المرأة تقايض من أجل البقاء ببيع لحمها الحي، كرامتها. ” سارة التي لم تحتمل الجوع وشردت مع راعي غنم قابلته خارجا من باب المنزل العمومي، راودته عن نفسها مقابل وجبتي غذاء، واحدة لها والأخرى لأمها المريضة.”144
لقد عرفت كل شخصيات الرواية نهاية مأساوية، كما لو أنها تعيش أقدارا تراجيدية تتجاوز شروطها الذاتية في المواجهة والصراع. وهذا ما عاشه كل من ديفيد وعازار وزكريا الذي ” لم ينتبه إلى نفسه يبكي بحرقة، فكر بقتل نفسه كان ممتلئا بالآثام أيضا لم ينس تلك الليلة التي أغوى فيها إيفون.”162
******
الهوامش:
خالد خليفة: لم يصل عليهم أحد، هاشيت أنطوان، 2019.