في السياسة الاجتماعية؛ الجزء التاسع: الصحة
عندما بلغ عدد سكان العالم 7 مليارات و 349 مليون نسمة عادت نظرية مالتوس إلى الأذهان. ولكن يقدر العلماء أن عدد سكان العالم سيصل في نهاية القرن الحادي والعشرين إلى 11 مليار و 213 ألف نسمة. وكان من أكبر العوامل المساهمة في النمو السكاني العالمي تطور أدوات الوقاية من الأوبئة والتعقيم وتطور الخدمات الصحية. لكن لظهور العديد من التهديدات الصحية الجديدة مثل فايروس كورونا وأنفلونزا الخنازير ووباء الإيبولا وحمى القرم وحمى الكونغو النزفية.. مخاطر يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على الحياة الاجتماعية ولا يمكن تجنبها بجهود فردية. لذلك، فإن استدامة سياسات الصحة العامة أمر مهم.
عند النظر إلى البلدان المختلفة، نلاحظ أن قطاع الصحة منظم بشكل مختلف تماما فيما بينها! ولكل بلد خصائص مختلفة، بل وتُظهر الخدمات الصحية في وحدات وأركان مختلفة من البلد الواحد خصائص هيكلية مختلفة جدا. تخلق هذه الصور الانطباع بوجود مجموعة متنوعة من السياسات الصحية! ومنه يكون السؤال: كم عدد السياسات الصحية الموجودة؟، أي منها هي الأنسب للبلد؟. هناك العديد من القضايا والأبعاد التي يجب دراستها من أجل تحديد القطاع الصحي في بلد ما. ومن بين هذه الأبعاد، يعتبر البعد العلمي/ التكنولوجي (الطبي)، والبعد الإداري، وبعد السياسية الصحية أهمها وأكثرها استخداما.
البعد الطبي لا يختلف من بلد إلى آخر أو من ممارسة إلى تطبيق، لأن العلوم الطبية وتطبيقاتها عالمية. الشيء الوحيد الذي يتغير في هذا البعد هو مستوى المعرفة والمهارة للأفراد الذين يؤدون هذه العمليات والتكنولوجيا. بشكل عام، إنها جودة الخدمات.
البعد الإداري وهو بُعد آخر يستخدم بشكل متكرر في تعريف القطاع الصحي، وفيه مجموعة متنوعة من الآراء تختلف من بلد إلى آخر ومن أسلوب تقديم الخدمة إلى شكلها، إلا أنه لا ينبغي أن يتغير فهو مثل العلوم الطبية، لأن قواعد علم الإدارة عالمية. الشيء الوحيد الذي يتغير هنا هو ما إذا كانت هذه القواعد معروفة أم لا، وما إذا كانت هذه القواعد مُتبعة أم لا! إذا تم اتباع هذه القواعد، تزداد الإنتاجية، وإلا ستنخفض. هذا الوضع صالح لكلا النوعين من تقديم الخدمات (الخاصة والعامة) وكذلك لكل بلد وكل منطقة. باختصار؛ ما يختلف من بلد إلى بلد أو من وحدة إلى وحدة هو الكفاءة ليس فقط بسبب قواعد علم الإدارة ولكن أيضا ما إذا كان يتم اتباعها أم لا.
أما بُعدُ السياسة الصحية المستخدم في تحديد القطاع الصحي فهو يختلف من بلد إلى آخر، وبين مناطق البلد الواحد، وحتى بين وحدات الخدمة. علاوة على ذلك، فإن البعد السياسي (السياسة الصحية المتبعة/ المعتمدة) يؤثر بشكل كبير على البعد الآخر المستخدم في تحديد قطاع الصحة. لهذا السبب، فإن البعد الذي يحدد تعريف قطاع الصحة في أي بلد هو السياسة الصحية. من وجهة النظر هذه، يمكن القول أن الشيء الوحيد الذي يتغير بشكل أساسي من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى ومن وحدة إلى وحدة هو السياسة الصحية.
السياسة الصحية تتضح في قسمين؛ الحياة الصحية، والرعاية الطبية. وهي سياسة فطرية تراعي حقا أساسيا من حقوق الإنسان. تنظر إلى الحياة الصحية كظاهرة اجتماعية وإلى الرعاية الصحية كنوع من التضامن والسلوك الاجتماعي؛ أما في حالة النظر إلى الحياة الصحة كظاهرة فردية، فهي بذلك لا تَعتبر الحق في الصحة واجبا اجتماعيا! تاركة إعمال هذا الحق بالكامل لقواعد العرض والطلب في السوق، وأن يستفيد الناس من هذا الحق بما يتناسب مع فرصهم.
تحدد هاتان النظرتان جميع السياسات والممارسات الفرعية الأخرى مثل التمويل والتنظيم والقوى العاملة في قطاع الصحة. فمثلا؛ بناءً على النظرة الأولى: تؤكد السياسة الصحية على التضامن الاجتماعي في التمويل، وتمويل الخدمات الصحية من قبل الجمهور (الموازنة العامة أو التأمين العام)، وتبني المنظمات والوحدات العامة في تقديم الخدمات. أما السياسة الصحية القائمة على النظرة الثانية: فهي تتبنى الدفع لكل خدمة والتأمين الخاص كوسيلة للتمويل، وتفضل عمل المنظمات والمؤسسات الخاصة من أجل تقديم الخدمات.
توجد علاقة ايجابية بين الصحة والبنية الاجتماعية والاقتصادية؛ فالصحة هي أحد العوامل التي يتكون منها رأس المال البشري وهي مجموعة فرعية من النمو الاقتصادي. واليوم، تختلف النظم الصحية في خدمات الرعاية، وتقوم العديد من البلدان باستمرار بإجراء تقييمات لتحسين الأداء وبدء إصلاحات جديدة، لكن كل بلد قام بإجراء تغييرات في السياسات الصحية وفقا لمحدداته الاجتماعية، التي هي الظروف التي يولد فيها الناس ويكبرون ويعيشون ويعملون ويشيخون؛ حيث تتشكل هذه الظروف من خلال عدد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والظواهر السياسية! وتتماشى هذه المحددات مع قرارات صانعي السياسات؛ ويمكن إعادة تصميمها أو حتى إنشاء مجتمعات جديدة كليا لإنشاء مجتمع أكثر صحة. هذه السياسات ذات أهمية كبيرة لحياة اجتماعية صحية ومستدامة. ومنه تظهر الشبكة التي تدعم وتؤثر في السياسة الصحية.
طور السياسي الفرنسي “كوندورسيه” مفهوم “الرياضيات الاجتماعية”، موضحا العلاقة بين الدولة الحديثة وصحة الشعوب التي تتكون منها، والرياضيات الاجتماعية هي عدد الأشخاص وفقا لصحتهم في الدولة، وبالتالي تحدد الرياضيات الاجتماعية قوة الدولة وحجمها. وقد ظهرت بوادر التعداد السكاني، والارتباط بالأوبئة مبكرا؛ ففي القرن الحادي عشر استخدم ابن سينا علم الاحصاء ليتعرف على انحسار وباء الطاعون في بخارى، واخترع الحجر الصحي، ومنه انتقل إلى الموانئ في ايطاليا، الذين كانوا يحجرون البحارة في مراكبهم 40 يوما قبل أن يسمحوا لهم في الدخول إلى الموانئ، وفي القرن السادس عشر ظهر في المدن الإيطالية، وفي السويد في القرن الثامن عشر؛ وطور المثقفون البريطانيون مفهوم الحساب السياسي، وتأسس مكتب البحوث الإحصائية في فرنسا خلال الحقبة النابليونية؛ وفي القرن التاسع عشر ظهرت نظرية السكان لتوماس مالتوس. كل منهم ساهم بشكل كبير في تطوير مفهوم الصحة العامة.
تجبر طبيعة المشكلة الصحية الدول القومية على التعامل مع المشكلات الصحية خارج حدودها الجغرافية أيضا! فالصحة قضية دولية خاصة فيما يتعلق بالأمراض المعدية وطرق العلاج وحملات التطعيم وصناعة الأدوية والابتكارات الطبية والأجهزة الطبية الإلكترونية.
وفي الحديث عن تطور السياسة الصحية الدولية:
– كانت الثورة الصناعية من أهم الأحداث التي أثرت على الحياة الاجتماعية وساهمت في انتشار الأمراض وتدهور الصحة العامة؛ واجتاحت الأوبئة أوروبا في القرن التاسع عشر. فكان التحرك الأول في هذا الموضوع هو مؤتمر الصحة الدولي الذي عقد في باريس في 23 يوليو 1851. وتم إنشاء لائحة بالسياسة الصحية تتكون من 137 بندا. وتم في الاجتماع الأول للمؤتمر تحديد قواعد النقل البحري والحجر الصحي وإجراء الدراسات اللازمة لتحسين الأنشطة البحرية وحماية الصحة العامة. وحتى نهاية القرن التاسع عشر، تم عقد 12 مؤتمراً في 11 دولة.
– في عام 1902 تم إنشاء مكتب الصحة الدولي للعمل تحت اسم منظمة الاتحاد الأمريكي. وفي وقت لاحق، تم تغيير اسم المنظمة إلى منظمة الصحة للبلدان الأمريكية. واندمجت هذه المنظمة بمنظمة الصحة العالمية بعد إنشائها وأصبحت واحدة من المناطق الست لمنظمة الصحة العالمية.
– وتعتبر منظمة الصحة العالمية إحدى أدوات إرساء السلام العالمي، وكانت نتيجة فكرة ظهرت في اجتماع الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945؛ وتأسست عام 1948. ويمكن لكل دولة عضو في الأمم المتحدة أن تصبح عضوا في هذه المنظمة، بشرط أن تقبل النظام الداخلي لمنظمة الصحة العالمية. ويمكن للبلدان غير الأعضاء في الأمم المتحدة أن تصبح أعضاء إذا حصلت على أغلبية الأصوات في الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية.
– عام 1960 بدأت الدراسات البحثية ضد بعض الأمراض داخل منظمة الصحة العالمية. وتم تحديد ثلاث مراحل خلال تدخل المنظمة: تدريب موظفي منظمة الصحة العالمية – تقييم طلبات التعاون في الحصول على المعلومات وتبادل المعلومات – المساعدة المباشرة للبلدان التي تحاول تحسين النظام الصحي.
– ثم ظهرت الأنشطة الاجتماعية لبعض الفئات في مجال الصحة، وبدأ مفهوم المستهلك الصحي يدخل الحياة اليومية في السبعينيات، وساد الاستياء من حالة النظام الصحي في جميع أنحاء العالم! وأصدر وزير الصحة والرعاية الكندي تقريرا حول إصلاح النظام الصحي الكندي، حيث كانت هذه أول علامة على تغيير جديد في السياسة الصحية. وبعد ثلاث سنوات من صدور التقرير، تبنى مجلس الصحة العالمي في منظمة الصحة العالمية عام 1977 فكرة تحقيق المستوى الصحي اللازم لجميع الناس ليكونوا فاعلين اجتماعيا واقتصاديا.
– في عام 1978 تم قبول الإعلان عن مؤتمر الصحة الدولي المنعقد في العاصمة الحالية لكازاخستان. والإعلان هو أحد اللبنات الأساسية للسياسة الصحية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وجُددت القرارات الواردة في الإعلان عام 1986.
وعلى الرغم من النوايا الحسنة العامة للسياسات الصحية في النظام الناشئ منذ الثمانينيات؛ نشأت عيوب مختلفة في الممارسة العملية؛ فعلى سبيل المثال إن محاسبة المواطنين لقاء تلقي الخدمات الصحية في قطاع الصحة، تعني أن الدول تتنازل عن بعض مسؤولياتها! وحسب السياسة الاجتماعية هذا غير مقبول على الإطلاق. فغالبا تشير دساتير الدول إلى أن الدولة مسؤولة عن الصحة الاجتماعية. ووفقا لاختلافات النظام الاقتصادي بين الدول المتقدمة والنامية في فترة العولمة، تقوم الشركات الكبرى وبعض قطاعات الدول المتقدمة تكنولوجياً بإنشاء منشآت إنتاجية صحية في الدول النامية ذات أسواق العمل الرخيصة وتحويل استثماراتها إلى الأسواق النامية؛ وهذا ما يوفر ميزة تنافسية في استغلال قطاع الصحة. ويلعب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دورا مهما في السياسات الصحية ويمكنهما فرض قيود على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية بالأموال التي يقدمانها في إطار اتفاقيات القروض مع هذه الدول؛ والطريقة الرئيسية للقيام بذلك هي الحد من الموارد التي سيتم توفيرها للبلدان المحتاجة إلى الائتمان، وخاصة البلدان النامية، من خلال اتفاقياتها.
في الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 تأثرت الصحة العامة سلبا؛ وكان من الواضح نشوء تفاوتات كبيرة في مجال الصحة ضمن الحياة الاجتماعية. وفي قمة 2011 كانت الدول المشاركة حريصة على إعادة تنظيم قطاع الصحة للقضاء على هذه التفاوتات الصحية؛ وعلى عكس السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي يغلب عليها خفض الإنفاق العام بعد الأزمة الاقتصادية العالمية؛ لوحظ أن الإنفاق على الصحة العامة قد ازداد في العالم من أجل القضاء على الآثار السلبية لعدم المساواة في مجال الصحة.
ختاما: الصحة كما حددتها منظمة الصحة العالمية: تعتبر حالة من الرفاهية الكاملة من الناحية الجسدية والعقلية والاجتماعية؛ والتغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العالم يتزامن مع تغير في الأمراض وخاصة الأمراض العقلية. فالصحة البيولوجية هي حالة تعمل فيها كل خلية من خلايا الجسم بأقصى طاقتها ويوجد انسجام بين الخلايا؛ والصحة العقلية هي الانسجام مع البيئة والقدرة على الدفاع عن الفرد ضد حدث غير متوقع، أما الصحة الاجتماعية فهي قدرة الفرد على أداء أدواره الاجتماعية.. العكس هو المرض.