الجسد العمومي والجسد الخصوصي: هل تحرير المرأة رهين تحرير جسدها؟

” إن الرجل يعتبر جسده كائنا مستقلا، يتصل بالعالم اتصالا حرا (…)، بينما يعتبر جسد المرأة حافلا بالقيود التي تعرقل حركة صاحبته…”
سيمون دي بوفوار

علمنا تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل أن أجسادنا تقول الكثير عنا. أو ربما أكثر من الكثير، إنها تقول كل شيء عن “ما نحن” وما يفترض أن نكونه في المستقبل دون تحريف أو انحراف. فنحن نولد إما ذكورا أو إناثا. وهذا ليس مجرد معطى طبيعي مادي محايد، بل انه يحدد بشكل مباشر مسارنا وتجاربنا المستقبلية التي تتأطر اجباريا في خانتين أساسيتين: إما أن تكون “رجلا”، أوتكون “امرأة”. وهذا تحديدا هوما يصطلح على تسميته بالجندر “Gender”، أو “النوع الاجتماعي”.

ليس “الجندر” مجرد تصنيف اجتماعي للأفراد بحسب أجناسهم، أي المعطيات الجسدية والتشريحية التي تميز بين الذكر والأنثى. بل هو تحديد قبلي لماهية الأفراد وهوياتهم، بل وأكثر من ذلك، تحديد للمواقع والأدوار الاجتماعية والجنسية التي يجب أن يلعبوها في المستقبل، لكي يكونوا متوافقين مع معايير الانسجام La cohérence، والوضوح L’intelligibilité، وبالتالي مع “الطبيعي” Le normal.

هذا التأويل الاجتماعي للمعطى الطبيعي، هوما يمكن أن نطلق عليه “أصالة الجسد” أو “طبيعانية الجسد”La naturalité du corps . إنها سيرورة ثقافية تهدف الى تحديد الوظائف والسمات القبلية للفرد، انطلاقا من جنسه (ذكر/أنثى)، والذي يقود بشكل مباشر الى نوعه أو دوره الاجتماعي (رجل/امرأة). بصيغة أخرى، هي عملية إضفاء الأصالة على معطيات الطبيعة المحايدة، عبر تأويليها ثقافيا ومن تم تحويلها إلى جوهر Substance دائم ميتافيزيقيا. وتأسيسا على “حجة الطبيعة” هذه تتم شرعنة التراتبية والتفاوت بين الرجل والمرأة وتبرير ذلك طبيعيا.

أعلم جيدا السؤال الذي سيتبادر الى ذهنك الان عزيزي القارئ: “لكن، أليس الجسد طبيعيا بالفعل؟ أليست الخصائص الجسدية معطيات طبيعية أصيلة وخالصة؟؟”
دعني أبسط قليلا فكرة “أصالة الجسد” أو طبيعانية الجسد”.

ليس بمقدورنا طبعا أن ننكر الحقيقة المادية والموضوعية للجسد كمعطى طبيعي. أي كمجموعة من الخصائص التشريحية المعطاة بشكل قبلي، والتي طبعا تختلف بين ذكر وأنثى. هذه فكرة واضحة جدا ولا حاجة لنا الى تفصيل القول فيها. غير أن الإشكال لا ينبع من “الجسد الطبيعي” في حد ذاته، بل مما يمكن أن نسميه “الجسد الثقافي”. أي مجموع التأويلات الثقافية للجسد، والتي تربطها بشكل تلقائي ومباشر بمهام وأدوار وقدرات، ومؤهلات محددة قبليا لكل من الرجل والمرأة. أي ما معناه في نهاية الأمر مكانة ومقام اجتماعي. إننا ندرك أجسادنا عبر وساطة الثقافة، وهكذا تتشكل تصوراتنا عن “الهوية” و”الانسجام” و”التناغم الداخلي”…

ليس “الطبيعي” بمنفصل إذن عن “الثقافي”، ولكي نجعل الوضع أكثر تعقيدا سنقول: ليس “الطبيعي” بمنفصل عن “السياسي” أيضا. لكن ما معنى ذلك؟

إن عملية التأويل الثقافي للجسد، والتي تهدف الى خلق أفراد “مستقيمين” أخلاقيا وجسديا، ليست في الأصل سوى رهان ولعبة سياسية، أو نتاج لما يمكن أن نسميه في اصطلاح ميشال فوكو “علاقات السلطة”1 Les rapports de pouvoir ، أي مجموعة منسجمة من علاقات القوة، التي يتم تقديمها في صيغة خطابات، أو قوانين، أو مؤسسات…وظيفتها الأساسية هي إنتاج “الحقيقة”، والتي تهدف طبعا الى تنميط الأفراد وتصنيفهم اجتماعيا، وتهيئتهم للعب الأدوار المحددة سلفا بدقة. ولا سبيل لتحقيق هذا الهدف، وجعله واقعا اجتماعيا، غير ضبط تصورات الأفراد وتوحيدها بخصوص ما هو “واقعي”، وما هو “طبيعي”، وما هو “عادي”…

قصارى القول اذن، ليس هنالك جسد غير ثقافي، ومن تم فإنه ليس هنالك جسد غير سياسي. إن الجسد حاضر في قلب الصراع السياسي الذي يتمحور حول الهيمنة، وبالتالي فهو خاضع لإكراه المعايير والضوابط، والتي تلخص دون شك تاريخ الثنائية: “رجل/امرأة”.

غني عن البيان في هذه اللحظة، أن واقع الهيمنة والتفاوت الذي يسيطر على علاقة الرجل بالمرأة، والذي يطبع تاريخ الحضارة الانسانية بمجملها، ليس واقعل اعتباطيا، ولا حتى واقعا طبيعيا، انه واقع سياسي أداة تحققه الأساسية هي “الجسد” المؤول ثقافيا. وقد كان للجسد الأنثوي كما جرت به العادة النصيب الأوفر من هذا التأويل، فهو الجسد “الحساس”، الجسد “المرهف”، الجسد “الجميل”، والجسد “المعذب” المشروط بلعنات الطبيعة (الدورة الشهرية) التي لا تجعل منه مؤهلا للحكمة والثبات والعقلانية… كل هذا يجعل منه جسدا “خصوصيا” وحميمياIntime ، أي منحصرا داخل حدود المجال الشخصي الخاص، الذي لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مجالا عاما، أي مجالا سياسيا واجتماعيا.

بتعبير أكثر جرأة وأكثر وضوحا، يمكننا القول أن المرأة من منظور الثقافة البطريركية هي “الجنس” والجنسانية2 ، أي كل ما هو حميمي، هي تجسيد للمسكوت عنه، كل ما لا يجب الإفصاح عنه. وكل ما يجب استبعاده من المجال العمومي (الجنسانية، الحساسية، المشاعر، الجمال..). أما الجسد الذكوري فهو جسد لكن بمواصفات مختلفة تماما، جسد بمواصفات “العقل”. جسد حكيم، صلب، صارم، عقلاني… جسد لا تطارده لعنات الطبيعة، وهومن تم “جسد لا يتألم”، وهذا ما يجعله مؤهلا لأن يكون جسدا “عموميا” وسياسيا.

على هذا النحو إذن أصبحت معاناة المرأة وكل المشكلات المرتبطة بها خصوصية، لا يفصح عنها ولا يصرح بها علنا. فهي مشكلات تعالج في “المنزل”، العالم الحميمي الذي تنتمي إليه والذي تتحدد وظائفها في حدوده فقط (وظيفة تدبير الأعمال المنزلية والوظيفة الجنسية).

هل تحرير المرأة إذن رهين بتحرير جسدها؟
إنه السؤال الذي انطلقنا منه والذي ننتهي إليه. والذي لا يعدو كونه محاولة للفهم ليس إلا. ربما لا يتعلق الأمر بمشكلة المرأة فقط، فلا شك أن هناك الكثير من المعاناة الانسانية التي تتستر عليها خانة “الخصوصي” و”الحميمي”. لذا ربما قد أصبحت ضرورة تحطيم ذلك الحاجز الوهمي بين العمومي والخصوصي، وكسر الصمت الذي يحيط بكل ما هو “شخصي” ضرورة ملحة لا مهرب منها. ف “الشخصي سياسي”3 في نهاية المطاف.

******

[1]   Michel Foucault. Surveiller et Punir (Naissance de la prison).

[2]  Simone De Beauvoir. Le deuxième Sexe.

[3]   Carol Hanisch. The personal is political.

قد يعجبك ايضا مشاركات هذا المؤلف

أضف تعليق

Share This