“… نحن نلتقي بابن خلدون والذين معه من عقول الملة في فضاء انتظار جديد تماما يمكن تسميته ما بعد الملة ”
فتحي المسكيني ، الهوية والحرية ص 67
“… كيف نظر ابن خلدون إلى مستقبل أنفسنا القديمة … وإلى أي مدى يمكن لابن خلدون أن يشاركنا في الاستغناء عن الحلول الهووية لمشاكلنا والانخراط في احتمال حيوي مدني جذري لأنفسنا … ؟ ”
فتحي المسكيني ، الهوية والحرية ص 24
1/ “ابن خلدون” لم يكن فيلسوفا بالمعنى الإغريقي:
لقد ثبت أنّ “ابن خلدون” قد كان في محاولته كتابة التاريخ فيلسوفا قبل كل شيء ، وظف الموروث المنطقي و المنهجي لخدمة نسق تفكيره الاجتماعي و التاريخي. لم يكن ممكنا لابن خلدون أن يؤسس هذا العلم الجديد ،علم العمران البشري إن لم يكن قد حاول قبل ذلك أن يصل قول التاريخ بالنظرة الكلينيكية للعالم و بالجغرافي وبمعرفة الفيلسوف و موافقة رجل الدين و تجريبية رجل القانون . لقد استطاع “ابن خلدون” وقد تكون على يد رجال دين و خاصة على يد شيخه “الآبلي” أن يتمكن من مختلف المعارف العلمية و الفلسفية المتطورة في الحضارة العربية الإسلامية وقد أبرز “محسن مهدي” أهمية تكوين “ابن خلدون” على يد “الآبلي”[2] و شدة تأثير هذا الأخير في كتابته للتاريخ. وتستطيع قراءة المقدمة[3] أن تلقي أضواء هامة على قنوات الاتصال بين ابن خلدون و مختلف فلاسفة الإسلام.
وليس في نيتنا هنا أن نحدد اللحظات المختلفة و الفروع المختلفة لهذه القنوات ولكننا نستطيع أن نؤكد بعض مظاهرها بطريقة دالة. لقد آثرنا إمكانية هامة للمطابقة بين نصين لـ “الفارابي” و “ابن خلدون”، أحدهما فلسفي والآخر سياسي و قد بحثا كلاهما في الضرورة الطبيعية للسلطة[4] ، فيجعل الأوّل -كتاب “الفارابي” المتجذر في الإرث الفلسفي الإغريقي- من السلطة ضرورة من مستلزمات تكوين المدينة ، وتقوم هذه المدينة بواسطة الحاجة إلى الاجتماع الطبيعي بين البشر .
“إن الإنسان بحكم جبلته في حاجة من أجل البقاء أو من اجل بلوغ أعلى درجات كماله لأشياء كثيرة لا يستطيع أن يحققها لنفسه بمفرده ولكن ينبغي أن يلجا إلى مجموعة من الأشخاص الذين يوفر كل واحد منهم له واحدة منها”[5] .
ولكن الثاني ونعني كتاب “ابن خلدون” ، وانطلاقا من الإقرار بان السلطة طبيعية مادام الاجتماع طبيعيا تبعيتها لظاهرة اجتماعية ديناميكية لمعرفة التجمع التضامني : العصبية .
كتب “ابن خلدون”: إن السلطة السياسية طبيعية للإنسان بحكم طبعه الاجتماعي والإنسان يميل في الواقع إلى الخير أكثر من الشر بحكم فطرته وبحكم ملكة العقل و المنطق (القوة الناطقة العاقلة) والشر ناشئ فيه عن قواه الحيوانية و الإنسان من حيث هو كائن بشري يميل إلى الخير و الفضيلة وتأتي القوة السياسية من حيث هو كذلك مادامت تخصه وتميزه عن الحيوان وهكذا ترتضي فضائل الإنسان القوة السياسية لأنّ الخير يتلاءم مع السلطة السياسية.[6]
الإنسان إذن مدني بالطبع والسلطة السياسية عينها هي اقتضاء طبيعي وبيولوجي مادام الإنسان المفرد ” لا يعرف كيف يصمد أمام حيوان مفترس لا يرحم سيكون فريسة الحيوانات المتوحشة ويموت مسبقا وسيكون انقراض النوع الإنساني”[7] .
يتضح إذن أن التكوين السياسي ضروري ، مادامت الحضارة قد أصبحت أمرا واقعا و تتمثل الضرورة في إحساس البشر بأهمّية وجود زعيم منظم “وازع” يراقب ويفصل لان الشراسة والظلم من الجبلة الحيوانية في الإنسان[8]. وقد حللت هذا الفكر مسبقا في فلسفة “الفارابي” انطلاقا من قراءة للفلاسفة الإغريق ، ففي هذه الفلسفة ضرورة السلطة طبيعية و بيولوجية لأنّ “المدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان وعلى حفظها عليه وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى و فيها عضو واحد رئيس وهو القلب ، كذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات وفيها إنسان هو رئيس وآخرون تقرب مراتبهم من الرئيس “[9] .
إن ما يرفضه “ابن خلدون” هو أن تسمى هذه السياسة سياسة عقلية فـ “ابن خلدون” كـ “ابي نصر الفارابي” ، يعتمد في سياسته العقلية ضرورة الرئيس و الحاكم التي هي بدورها نتيجة لضرورة سابقة تتمثل في أن الاجتماع البشري ضروري ولكنه يرفض ربط هذه الفرضيات و النتائج بالمستوى الفكري البحت وبالمنطق النموذجي التابع أساسا لفلسفة “أفلاطون” السياسية .
يقصد الفلاسفة بهذه الألفاظ ، المدينة الكاملة ، المجتمع البشري الذي يكون لأعضائه من التعاليم الطبيعية في أنفسهم وخلقهم ما يغنيهم عن الحكومة، هذا ما يسمونه “المدينة الفاضلة” وهي عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عنها على جهة الفرض والتقدير.[10]
والحق يقال إنّ “ابن خلدون” لا يتميّز عن الفلاسفة المثاليين على مستوى مفهوم “المدينة الفاضلة” فحسب ، انه يرفض أيضا منطق الفلسفة الهيلينستية عندما تعرض أصل ومبدأ السلطة . الفلسفة مدنية في جوهرها وهي فعل من “البوليس” المشتقّ من المدنية “بوليتيا ” وفي رأي “أفلاطون” و “أرسطو” و”الفارابي” و”ابن رشد” تمنح الفلسفة الحظوة “البرستيج” للمدينة على حساب الرحّل والقبائل والبدو ، على حساب البداوة عامة . في حين يعتبر “ابن خلدون” المدنية ثمرة تغير اجتماعي و لصيرورة تجمع تضامني للعصبية التي لم تكن في الأصل مدنية والتي هي أصل وعصب كل حياة اجتماعية .
لقد غلط “أبو الوليد ابن رشد” في هذا الموضوع لمّا ذكر”الحسب” في “كتاب الخطابة” من تلخيص كتاب المعلم الأوّل “والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزولهم بالمدينة” ، ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه ؟
صحيح أنّ “ابن رشد” ، قد نشا في جيل وفي مكان لا اثر فيهما للتجمع التضامني “للعصبية” والشروط التي تنظمها ولم يسـتطـع للأسف أن يـتجاوز الأمـر المشهور للـعائلة و للـنبالة وللمجد القائم على سلسلة النسب لم يعد إلى واقع العصبية وتأثيرها على البشر.”[11]
“إذن تبدأ السياسة بالضرورة بواسطة هذا التضامن القوي والمؤثر الذي يميّز البداوة” ، كما توجد مسالة أخرى خالف فيها “ابن خلدون” الفلاسفة العرب “إنّها ضرورة السلطة السياسية النبوية حسب رأيهم “[12]
لقد كتب ” اولفييه كاري” ، في الواقع يرفض “ابن خلدون” النظريات السياسية الشيعية عامة والفلسفة النبوية على وجه الخصوص ولا يعني هذا أنّ “ابن خلدون” يرفض كل سلطة دينية فعلى العكس من ذلك وضمن المذهب السني والمذهب الأشعري الذي يعتنقه يدافع “ابن خلدون” عن فكرة أنّ السلطة فرض ديني ، وفعلا فهو يميز بين نوعين من الحكم ، حكم ديني وحكم تمسك به السياسة العقلية . ينفع الشكل الأول الدنيا والآخرة[13] لأنّ المشرع يدرك النهايات الأخيرة لرعاياه ويعنى بخلاص الإنسان الأبدي. أماّ الشكل الثاني فلا ينفع إلاّ هذا العالم.
والسياسة العقلية نوعان : ملك سياسي يراعي في ممارساته الفعلية المصلحة العامة وينجز توازنا بين الراعي والرعية بواسطة وضع مجموعة القوانين المحددة بوضوح وملك طبيعي ينشد الحاكم فيه مصلحته الشخصية أوّلا و وسائل الإبقاء والمحافظة على نفوذه بالقوة[14]
و حري بنا أن نلاحظ أنّ “ابن خلدون” في رفضه لسلطة النبوية كاقتضاء و ضرورة لا يذهب إلى حد إلغاء ضرورة النبوة عامة ولا ينخرط في معاداة النبوة المتناسقة والحادة كما نجدها عند “الرازي” الذي يرفض الاعتقاد في الرسالة النبوية المنشئة عادة للحرب والقتل والمذابح باسم “مساوتية “لا تقهر أماّ بالنسبة إلى “ابن خلدون” فالنبوة وحدها دون عصبية لا تستطيع أن تنشئ قوة حقيقية, تستمر و حجّته هي أنّ الرسول محمد نفسه قد احتاج هذه العصبية ، وأنها بدأت تلعب دورها وهي العامل الرئيس الذي يمنع الأمّة من التشظّي و الفرقة وهي مصدر اجتماع وتلاحم وهي الضامن لتدابير الإسلام وتشريعاته.
نستطيع إذن أن نحدّد نقطة اختلاف أساسية بين “ابن خلدون” والفلاسفة المثاليين داخل مجال الخطاب العملي / التطبيقي، ينطلق “ابن خلدون” في تحليله من نظرة تجريبية للحالة المرضية والنقدية لعصره ، في حين يقترح الفيلسوف صورة مثالية انطلاقا من تقاليد فلسفية يحاول أن ينسخها على واقعه، و يرفض “ابن خلدون” منطق نماذج الفيلسوف المثالية وينادي بمنطق علمي واقعي قائم على الملاحظة والنظرة الكلينيكيّة .
ولنلاحظ أن هذا الرفض لمنطق الأنموذج الذي يصادفنا عند “الفارابي” تحت تأثير “أفلاطون” لا يعني إذن رفض الأخلاق المثالية لدى الفلاسفة و عدم اهتمام “ابن خلدون” بها .
فكما بين “أولفييه كاري” جيدا نستطيع أن نرى فيه سياسيا وأخلاقيا مسلما في الوقت عينه و إذا كان “ابن خلدون” يحلل الأنظمة السياسية بلا خداع فان ذلك في نهاية المطاف في علاقة دائما بالمعايير الأخلاقية المستوحاة من الإسلام وبهدف مساعدة الحكام على استلهامها ما أمكن.
إن ميزة النظرية الخلدونية أنها لا تعتقد في النجاعة الآلية للنصيحة والوعظ الأخلاقي والنوايا الحسنة إذ لا توجد عند “ابن خلدون” أخلاق مستقلة عن السياسة فـ الأخلاق سياسية أساسا وهي مرتبطة بالمعرفة وبنظريته نظرية العصبية.
هل يعني هذا أن رفض “ابن خلدون” لمنطق الأنموذج المثالي يدل في نهاية التحليل على انخراط النظرية الخلدونية ضمن فلسفة “أرسطو” الواقعية . ؟
لقد أبرز “نصيف نصار” في أطروحته أنه توجد في المقدمة نقاط التقاء ونقاط اختلاف مع المنطق الأرسطي إلاّ أنّ تجريبية “ابن خلدون” أكثر جلاء من عقلانيته ما دام قد رفض الانطلاق من قوانين التفكير العامة ومعالجة مبادئ المعرفة وستكون محاولة “المقدسي” عن “ابن خلدون” محاولة باطلة و لا طائل منها إذن ولن تستطيع البلوغ إلاّ إلى فشل تام .
كان هاجس “المقدسي” ، تحديد العقل مبدأ كل تصور للأفعال و للأفكار و هنا أيضا يقوم “ابن خلدون” بتجريبيته و بتدمير مواضع نشاط العقل ونحن نتفق مع ما قال “نصيف نصار” ، بشان هذا العقل .
في حين يتصور “ابن خلدون” العقل مثل “الغزالي” بمثابة المعيار العادل لكن المحدود “ميزان” ، لكنه بالنسبة إليه ليس إلا نقطة انطلاق يحاول أن يشتق منه النتائج . فليس للحقيقة العقلية الفرصة للدخول في صراع مع الحقيقة المنزلة .
وبالاعتماد على الأطروحات الارسطوطاليسية ساهم “ابن رشد” في خلخلة نسقي / نظامي الحقيقة وعلى العكس من ذلك كان مقصد “ابن خلدون” أن يخلص الاثنين موكلا إلى العقل مجاله الحقيقي لذلك جشم المفاهيم الأساسية للفلسفة الداخلية تحولا مضاعفا . أعيدت السببية / مبدأ العلية إلى مستوى أفعال الإدراك الحسية[15]
و يضيف “نصار” ، أنه “على أساس هذا النقد للعقل العلمي ,تطوّر تفكير “ابن خلدون” ، في اتساق ملحوظ . إذ لا تكمن عبقرية “ابن خلدون” في تأملاته حول التاريخ واكتشافه لعلم الاجتماع فحسب ولكنه يكمن أيضا في إدراكه الفلسفي للواقعية الذي جعل هذا التصور ممكنا” [16] فما هو مهم بالنسبة إلينا هو تأكيد أن الخطاب الخلدوني يقع في جوار المعرفة الفلسفية وأنّ وشائج ذات أصناف مختلفة تربط “ابن خلدون” بـ “الفارابي” و”ابن سينا” و “إخوان الصفا” و “أبي حيان التوحيدي” و”ابن العربي” و”الغزالي” و”ابن رشد” و”لسان الدين ابن الخطيب” و”الطرطوشي” .
ويمكن لتحليل المقدمة أن يظهر مدى حضور مرجعيات هؤلاء الفلاسفة وتأثيرها ، بيد أن الأهمّ من كل ذلك يبقى في رأينا توضيح العلاقة الشائكة و المعقدة بين العلم الاجتماعي الخلدوني والعلوم الدقيقة في تلك العصور ولعل التعمق في هذه الناحية يجعلنا نلاحظ بعض الشبه بين طريقة علماء الطبيعة في الإسلام “ابن الهيثم” مثلا أو “البيروني” وطريقة “ابن خلدون”فان يدعو “ابن خلدون” إلى ترك المنطق الاستنباطي وان يستعمل مثلا في معالجته لقضايا علمه الجديد منطقا استقرائيا ماديا فهذا ليس بغريب إذا علمنا أن “ابن الهيثم” كان يدعو إلى ذلك إذ يقول : “ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات”[17] ويبدو أيضا أن فكرة شمولية القوانين التي نجدها بوضوح عند “ابن خلدون” ربما تكونت باتصال فلسفته بالعلماء الإسلاميين. فهل كان “ابن خلدون” يدعو حقا في المقدمة إلى إبطال الفلسفة ويقول بفساد منتحليها وهل تحول فكر “ابن خلدون” من العقل إلى اللاّعقل كما يزعم “عبد الرحمان بدوي” [18]
في الباب السادس: في العلوم وأصنافها يحاول “ابن خلدون” أن يلخّص لنا الفلسفة ويبين ضررها على العمران والدين وهو يجعلها ضمن صنف العلوم الطبيعية. “واعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداو لونها في الأمصار تحصيلا وتعلما هي صنفان صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يوقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر”[19].
يعتقد “ابن خلدون” إذن أن أساس الفلسفة يكمن في استعمال العقل للوصول إلى الحقيقة وهو بذلك لا يختلف عن الفلاسفة الإسلاميين واليونانيين ولا يستعمل العقل في العلوم النقلية : لا في الفروع ولا في الأصول.
يميز “ابن خلدون” بين ثلاث مراتب أساسية للتفكير والعقل تتعلق الأولى بـ “التعقل” بمعنى الفهم و التمييز وهذه المرتبة هي في الحقيقة الدرجة السفلى للعقل انه يمكن من الوجود في العالم ومن إدراك الأشياء الخارجية ومن توضح الأشياء ومن التأثير عليها.
في النهاية إن الأمر يتعلق بالوسائل التي عند كل إنسان لتمييز الخير من الشر الأمر الذي هو ضروري بالنسبة إليه حتى يعيش. للتمييز إذن صفة أخلاقية واجتماعية والعقل التمييزي هو الذي يساعد الإنسان على الحصول على ما هو ضروري وتجنب ما هو مؤذ.
ومرتبة العقل الثانية هي سلفا أكثر كمالا مادامت تمكن المرء وقد ميز الأشياء وفصل النافع من الضار من تملك أفكار وآراء. إنّه بهذه المرتبة من العقل يكون الإنسان سياسيا، يعقد صلات مع الآخرين ويتصرف اجتماعيا يزود التفكير في هذه المرتبة الثّانية الإنسان بالآراء وبالطرق التي يجب إن يعتبرها في علاقاته مع نظرائه وفي محاولاته توجيههم أنه عقل تجريبي وهو مرادف للمفاهيم الإيديولوجية في المصطلح الحديث انه ثمرة التميز الذي يقود الفعل ، وهذه المفاهيم تصدر جميعها عن التجربة وهي مفاهيم خاصة تتكون انطلاقا من أشياء محسوسة ويتجلى الصواب والخطأ في الممارسة.
وأمّا المرتبة الثالثة فهي العقل النظري : أي ذاك الذي يعرف حقا ، ذاك الذي يزود العلم بأشياء تتجاوز الحواس وتخرج عن متناولها ، موضوعه إذن هو الكائن والوجود مع عللهما وتنوعهما واختلافهما لتصور الوجود، وهكذا يبلغ الفكر تمامه الحقيقي ليصبح عقلا محضا وههنا توجد الحقيقة الإنسانية . يجب أن نسجل انه بالنسبة إلى “ابن خلدون” إذا كنا نستطيع الحديث عن عقل في التاريخ فسيكون في الذكاء التجريبي بمعنى انطلاقا من تسييس الإنسان ، نستطيع في هذا المستوى إن نتحدث عن العلاقات الاجتماعية عن المعاملة وعن الحروب وعن الصراعات وعن البغضاء وعن المحبة وعن الصداقة ، وهو ما يحدث الحرب أو السلم في القبائل و الأمم ويتصرف الإنسان في هذه العلاقات الاجتماعية بفكر التمييز والتجربة انه ما يصنع إنسانية الإنسان لان كل مساراته لا تنشا صدفة وإنّما هي منتظمة ، في مظهرها السياسي وخاضعة لشروط فلسفية.
وأن نبحث في مشكل خاص ، في حدث سياسي أو اجتماعي و تاريخي هو أساسا أن نعرف تمييز الصواب من الخطأ و استخلاص العبر من اختبار هذه العلاقات الاجتماعية حتى يعلم بوضوح ما ينبغي وما لا ينبغي فعله . إنّ هذا العقل التمييزي يمكن من تحديد صحة الحوادث بالبرهنة على إمكانيتها من وجهة نظر عملية ومن استخلاص الدروس على السلّم الاجتماعي في نفس الوقت لكن العقل بالنسبة إلى “ابن خلدون” إنماّ هو وسيلة نقد لا ينبغي أن يغادر مجال نفوذه المحدد بالعلوم العقلية والفلسفية . ولئن كان كما قد وضحنا مؤسسا للقوانين الاجتماعية والسياسية، فاعلا في المجالات الفلسفية فانه لا يستطيع في أي حال أن يكون وسيلة للعلوم الدينية ففي العلوم التقليدية والتشريعية يتعلق كل شيء بالمعلومات المقدمة بواسطة سلطة بعض القوانين الدينية .لا مجال للعقل إلاّ في ربط بعض المسائل التفصيلية بالمبادئ الأساسية ، و لا يعتبر “ابن خلدون” القياس والتماثل كشكل من العقل وكاستدلال ناشئ عن عقل الفلاسفة انه قائم على التقليد نفسه فالاستدلال القياسي/التماثلي إذن تقليدي مادام ناشئا عن التقليد.
يجب أن نؤكد أن العقل لا يتدخل فعلا في العلوم الشرعية إلاّ ليبرهن على صحتها ويؤسسها لصالح التقليد وهنا يكمن موضوع العلم الديني من جهة كونه علم الأدلة العقلية للدفاع عن العقائد ودحض البدع. تكمن هذه العقلية حقا في “مبدأ السببية” أو على الأصح في هذه الحتمية: “كل شيء يتكون في عالم الكائنات سواء كان جوهرا أو حدثا، حيوانا أو إنسانا مرتبط بعلة داخلية مناسبة جعلته يأتي إلى هذا العالم بحسب العرف/ العادة، التي يصدر عنه وجوده”[20]
وقد لاحظ “محمد عابد الجابري” بشان هذا التعريف أن عبارة بحسب العرف تبين اتجاه “ابن خلدون” العقلاني والديني في الوقت ذاته . إلاّ أن الأشاعرة يرفضون فهم “مبدأ العلية” على طريقة الفلاسفة يقول “الجابري”: ” نستطيع تلخيص موقف الأشاعرة المتعلق بهذه المسالة في كون الربط بين الأسباب والوقائع ليس ضروريا ، إن الله جعل على نحو ما بالعادة أو بالعرف وقائع معينة تقع عندما ترتبط بأخرى و ليست العلية عندهم وعند “ابن خلدون” أيضا ضرورة عقلية مسبقا ولكنها عادة .”[21]
نحن نوضح إذن أن العقل ضروريّ بالنسبة إلى “ابن خلدون” وان تفنيده للفلسفة لا يعني استحالة العقل . إن الخطأ لا ينتج عن استعمال العقل والعلم والفلسفة في التفكير بل عن خروج العقل عن حدوده المرسومة وهيمنته على العلوم النقلية وسائر المعارف البشرية فالخطأ إذن أن تكون الفلسفة أمّ العلوم بما فيها الشرائع الدينية بأصولها وفروعها.
ما الذي يقربه من الخطاب الفلسفي؟
يمكن الإشارة إلى أن الفيزياء ذاتها قائمة على عموميات وأفكار شاملة في حين الكائن مفرد هو أساسا . إن حجج الفلاسفة حول الموجودات الخاضعة لمعايير المنطق غير كافية بوضوح وتلك المتعلقة بالكائنات الجسمانية كذلك ، لأنّها لا تثبت بطريقة لا جدال فيها أنّه يوجد تطابق بين العالم الخارجي والنتائج الفكرية التي ستوصلهم إليها استدلالاتهم ومفاهيمهم العقلية . وبالفعل فإنّ كلّ أحكام الفكر عامة في حين للأشياء ماهيتها الفردية . وربما يوجد أيضا في هذه الماهية شيء يمنع المطابقة بين العناصر الكونية للفكر وفردانيات العالم الخارجي .وإذا كانت الفيزياء عاجزة عن بلوغ هذه المطابقة فما القول في الميتافيزيقا. فنحن لا نكاد نعرف كما بيّن “أفلاطون” شيئا مـن الأشـياء الإلهـية على وجه الدقـة وكل ما نسـتطـيع قـوله إنـّما هو ضرب من ضروب التخمين . ونتيجة هذا النقد النسقي، هي أن العلم الفلسفي الإيجابيّ الوحيد يكمن في المنطق الذي هو “سيّد العلوم الشرعيّة” ، يشحذ الفكر “بإعطائه ضمن وسائل الحجاج و البرهان النسقي عادة المجادلة الدقيقة والصحيحة”.
لا يختلف اثنان في أنّ “ابن خلدون” أشعريّ المذهب يقول “محجوب بن ميلاد” : “والذي أعنيه هو أنّ “ابن خلدون” لم يكن أشعريّا تقليدا مثلما أنّ “الغزالي” لم يكن أشعريّا تقليدا وإن كان شتّان بين جنس فتح “الغزّالي” في إحياء علوم الدّين وبين جنس فتح “ابن خلدون” في تمحيص شؤون العمران”[22]
ولكنّنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه “بن ميلاد” من أن أشعريّته هي مفتاح “المقدّمة” فهناك مفاتيح أخرى لا بدّ من التعامل معها كتعامله المستمرّ مع جدليّة العلم والأصوليّة حسب تعبير “عبد السلام المسدّي” [23] ، أو استقراءه الميتودولوجي والعلميّ للواقع المتغيّر أو اتّصالاته المتنوّعة بشتّى ألوان المعرفة. لهذا يبدو لنا أن نقد الفلسفة عند “ابن خلدون” إنما يدخل في باب توظيف الأيبستيمولوجيا لتحرير”علم العمران البشري” من متاهات الفلسفة في صيغتها الوثوقيّة أو في صيغتها الإيطوبية (فلسفة “الفارابي” السياسيّة) أو في صيغتها الميتافيزيقية . ولا يرى “ابن خلدون” حرجا في استعمال المنطق الفلسفي و استخدامه مع تحديد مجال ذلك الاستخدام تحديدا واضحا، حتّى لا يستعمل العقل في غير محلّه. ولعلّنا لا نغالي عندما نبرز أنّ “ابن خلدون” في رفضه للميتافيزيقا و إقراره الإيبستيمولوجيا والمنطق يعتبر الفلسفة ، إنّما هيّ عمليّة توضيح تتدخّل في العلوم لإقرار الصواب وبيان نمط عمل المفهوم .
فمن الجليّ إذن أنّ عمل الفلسفة هوّ التدخّل في العلوم الطبيعيّة و الحكميّة للتمييز بين الخطأ والصواب و “ابن خلدون” يوظف الفلسفة داخل فضاء المعرفة العلميّة. ههنا يستبين أنّ دعوته إلى انقراض الفلسفة المعادية للشّرائع الدينيّة إنّما هي ليست إقرارا بعداء مطلق للتفلسف.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإبداع الفلسفي العربي لا يظهر عند الفلاسفة المشاءين والمتكلّمين فحسب، بل يظهر أيضا عند “الأخصّائيين” في شتّى العلوم كـ “البيروني” و “ابن الهيثم” و”ابن جنّي” و”الرّازي” و”ابن سينا” و”ابن حازم القرطاجنّي” … فقد نجد فلسفة منهجيّة داخل أعمال هؤلاء العلماء ، فخلف أنسجة العلوم تأسيس أصولي فلسفيّ.
والنتيجة الحاصلة هي أنّ “ابن خلدون” ركّز اهتمامه الفلسفيّ على فكر أصوليّ إيبستيمولوجيّ يحدّد مجال معقوليّة “علم العمران البشريّ”، الذي يحتاج إلى منهج واقعي واستقرائي يستنطق الواقع المجزّأ. فيتأكّد حينئذ أن إيبستيميّة عصر “ابن خلدون” لا يمكنها أن تنتج فيلسوفا مشّائيّا كـ “الفارابي” أو “ابن سينا” أو “ابن رشد” ، ذلك أنّ جدليّة الكلام والفلسفة أنتجت فكرا جديدا ذا وجهين متباينين: يبحث الأوّل في الواقع البشريّ المتّصل بالسلوك والأخلاق و السياسة والدّين( ابن تيميّة و ابن خلدون) ، أمّا الثّاني فهو ديني ينحو بالفكر الفلسفي ّ منحى مثاليّا في جوهره ( ابن عربيّ) . إنّه ما يميط اللثام إذن عن التّداخل المستجدّ في فلسفة “ابن خلدون” ، وهو ما يفسّر اصطباغ اكتشافه العلميّ بآرائه الدينيّة ومواقفه الإيديولوجيّة ونظريّته الفلسفيّة . وقد يتوضّح رأي “ابن خلدون” أكثر حين ندرك أنّ الفلسفة أنّما يتمثّل عملها في التمييز بين النّواة العلميّة في العلم وبين الغطاء الإيديولوجي والمواقف الفلسفيّة والدّينيّة، فالفلسفة ضروريّة لأنّ ثمرتها “شحذ الذهن في ترتيب الأدلّة” ما لم تتناقض مع الشريعة الدّينيّة . ومن ثمّة لم يكن “ابن خلدون” متملّقا خائفا يخشى أن يتّهمه النّاس بأنّه فيلسوف كما يدّعي “علي الورديّ”[24] . و قد اتّسم عصره بنوع من التعسّف على الفلاسفة وكلّ من يتعاطى الفلسفة بمعناها التقليديّ.
في المقابل لاحظ “ابن خلدون” الأهمّية التي كانت تحظى بها الفلسفة عند الأوربيين فقال : “كذلك بلغنا لهذا العهد أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الإفرنجة من أرض روما وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هنالك متجدّدة ومدارس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفّرة وطلبتها متكثّرة والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار “[25].
غير أننا نعتقد أنّ النّقد “الخلدونيّ” ، للفلسفة يتنزّل في إ طار الصراع الأبديّ بين شكلين أساسيين للفسفة : “القول الدّاخلي” و”القول الخارجي” . وفعلا فإنّ التفكير الفلسفي هوّ اتّصال بين ممارسات قوليّة متعدّدة علميّة ، ودينيّة وأخلاقيّة وسياسيّة واقتصاديّة ، وهو نسق تعبيري ّ داخل مجتمع معيّن ينمّ عمّا وصلت إليه الطبقة المثقّفة من نضج فكريّ ، لكنّه يعكس في ذات الوقت الصراع الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ . ولأنّ الفلسفة تعمل داخل هذه الشّبكة من الممارسات تحدد في الآن نفسه قابليّتها لاستبطان المفاهيم الخارجة عنها ( المفاهيم العلميّة والأفكار الدّينيّة والسياسيّة) وقابليّتها للتطبيق حسب المحاور والفضاءات التي يمكنها أن تتدخّل فيها .
و إنّه من اللافت للنظر أنّ فلسفة “ابن خلدون” استبطنت داخل نسقها كلّ الأفكار و المفاهيم التي ميّزتها إيبستيميّة عصره . لقد تبيّن إذن أنّ “ابن خلدون” لم يكن فيلسوفا بالمعنى الإغريقي، لا سيّما إذا حصرنا الفلسفة في القول الدّاخلي، و أمّا إذا نظرنا إلى الفلسفة من جهة كونها ذلك القول الذي يهدف إلى التدخّل في ميادين خارجة عنها فسيكون “ابن خلدون” فيلسوفا من الصنف الأوّل.
2/ في التاريخ الاجتماعيّ:
روى “السّحاوي” أنّ الفقيه “ابن عمّار” ، الذي لا يكف ّ عن الاستناد إلى تاريخ “ابن خلدون”، قد قال عن المقدّمة : “لقد جمعت كلّ العلوم ولا يستطيع الموهوبون والخطباء مضاهاتها وهي في اعتقادي واحدة من الكتابات التي لا يطابق عنوانها محتواها شأن “كتاب الأغاني” ، الذي هكذا سمّاه صاحبه في حين هو يتكلّم عن كلّ شيء ، هناك أيضا “تاريخ بغداد” لصاحبه “الخطيب البغدادي” “فقد عنونه كذلك في حين يتحدّث الكتاب عن التّاريخ الكونيّ عامّة”[26]. يجب أن نقول إنّ سعي “ابن خلدون” إلى التفّكر في التّاريخ علميا وفلسفيا، لم يحظ من “المؤرّخين العرب” ، في عصره بالقبول الحسن . ولكن في المقابل بيّن “أحمد عبد السّلام” أنّ كتاب “ابن خلدون” لم يتقبّله معاصروه والأجيال التي خلفته مباشرة في العلم بلا مبالاة البتة، بل لقد أثار بين علماء القرنين الرّابع عشر و الخامس عشر مواقف تأييد ومواقف رفض [27] .
ويتجلّى تأثير “ابن خلدون” على “المقريزي” و على الفقيه “ابن عمّار” وعلى المؤرّخ “العسقلاني” وعلى “ابن الأزرق” . غير انّه يوجد عند هؤلاء نقص يظهر أصالة وتفوّق “ابن خلدون” وفكره التّاريخيّ، يتمثّل في كونهم لم يدركوا العنصر المهمّ في فلسفة التّاريخ الخلدونيّة لمعرفة تبدّل الأحوال. و”ابن الأزرق” نفسه الذي استعار من المقدّمة الكثير من المفاهيم والأفكار السياسيّة ، قد أقصى هذا المبدأ الأساسي في تفسير التّاريخ .
لقد ظلت أفكار “ابن خلدون” حول التاريخ وفلسفة التاريخ عنده خاصة غير ملحوظة . فما هي نقاط التقاطع المختلفة للنسق الفلسفي الخلدوني فيما يتعلق بالتاريخ؟
ينبغي أن نلاحظ قبل الإجابة على هذا السؤال ، أن النسق الفلسفي الخلدوني نسق مفتوح على نحو انفتاح المقدمة ، ولا يكمن هذا الانفتاح في تنوع المجالات المختلفة المدروسة، ولكنه يكمن أيضا داخل بنية العلم الاجتماعي : “علم العمران البشري” ، القائمة على الملاحظة الدقيقة والتحليل النوعي للمجتمعات العربية البربرية . هذه المجتمعات تأثرت بأزمات عميقة بحلول “بني هلال” و كثرة الأوبئة والحروب و تأثّرت بأزمة على مستوى الوعي الجماعي الذي خلخله التأخر التاريخي .
وضمن هذا الحراك والتحولات والأزمات يتدخل التاريخ :علما للفهم . وكانت تجربة “ابن خلدون” الشخصية ونظرته إلى مجتمع عصره واحدة من مصادره الأساسية كما يبقى “المسعودي” رغم نقد “ابن خلدون” له مرجعا. أوليا للـ “مقدمة” . فالمؤرخ في نظر “ابن خلدون” محتاج إلى معارف متنوعة وحسن نظر وتثبت . وقد كتب “محمد الطّالبي” ، “لقد كان هاجس “ابن خلدون”منهجيا بالأساس. كان يقصد من التاريخ فهم الواقع الذي عاشه ومارسه”[28]
فتاريخ “ابن خلدون”، بعيد جدا عن تاريخ “ابن الأثير” ، أو حتى عن تاريخ “الطبري” ، فابن خلدون لم يكن مؤرخا حرفيا، يضيف “الّطالبي” وان كان قد اتخذ انشغالات المؤرخين منطلقا له . فهدفه لم يكن تسجيل الأحداث كما هي و إنّما فهم أسبابها وتبعاتها و دوافعها ونتائجها . لم يكن التاريخ غرضه ، كان وسيلة لفهم هذا الانهيار الذي عاشه والذي بلبله . لقد أراد إجلاء القوانين التي عليها تنبني الحضارات وتلك التي تهزّها . وهكذا أصبح التّاريخ مخبرا ومستودعا للتجارب . لقد كان “ابن خلدون” يريد استنباط طريقة علميّة لإثبات الحقيقة التّاريخيّة وتأسيس علم كونيّ : موضوعه دراسة المجتمع في تكوينه وفي طريقة اشتغاله .
وبالتالي ينبغي أن نميّز بين ثلاثة أشياء : ما هو ملازم في جوهره وفي طبيعته للحضارة ، وما هو طارئ يمكن التغاضي عنه ، وما لا علاقة له البتة به ، هكذا سيكون لنا المعيار الذي نفصل به الصواب عن الخطأ بطريقة مقنعة ولا تقبل المنازعة. هل يجب أن نجعل من “ابن خلدون” مؤرّخا فذا ّ مادام قد ترك تقليدا عربيّا لكتابة التّاريخ؟
فالتّاريخ موضوعه دراسة الاجتماع الإنساني ، وهو يبحث فيما يتعلّق بالحضارة لمعرفة حياة التوحّش والتآنس والخصائص النّاشئة عن العصبيّة التي بواسطتها يسود الحكم ويستمرّ السلطان والمراتب و الدوّل، ثمّ يهتم ّ بالكسب والمعاش وهكذا يتّضح أنّ العنصر الأساسي في مسار التّاريخ إنّما هو التبذّل و “ابن خلدون” يحذر من الذهول عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال فالصيرورة أبديّة. وقد سجّل “ابن خلدون” بمرارة ذهاب سلطان العرب وانتقاله إلى غرباء .
ومن أجل فهم فلسفة “ابن خلدون” السياسية ، فإنّه حقيق بنا أن نربط عضويّا الاجتماع بضرورة الوازع والعصبيّة ، حيث لا يكتمل الكائن البشريّ إلاّ داخل الجماعة، داخل مجتمع منضبط وملتفّ حول وازع يراقب ويردع كلّ فوضى ، و ينشأ عن علاقة الإنسان مع الآخرين صراع رغبات وتنشأ عن هذا الصراع الفوضى ومن ثمّة يتوجّب وجود رادع ، وازع ، زعيـم [29]
والسلطة هنا مرادف للغلبة والسيطرة ولا غنى في هذا السياق عن العصبيّة، إنّها القوّة المحرّكة لصيرورة الدولة على حد عبارة “روزونتال” ، و المحرّك الحقيقي للتّاريخ على حدّ عبارة “الطّالبي” [30] . إنّها أساس التّوازن و الدّولة إنّما هي نتيجة لهذه العصبيّة . وما يقتضي التوضيح هو أنّ العصبيّة ليست خاصّة بالبدو بل لها أشكال حضريّة تجعل منها قوّة اجتماعيّة جامعة .
ولكن تستطيع المدينة في ظل ألرفه و الكسب السهل أن تليّن هذا التجمّع التضامني فيفقد أعضاءها صفات العنف ويتأهّلون، وهذا هو زوال العصبيّة وهو خسارة للدولة التي ستنتزعها عصبيّة أخرى أكثر قوّة وأكثر شراسة . فهل تحول دوريّة الأنظمة السياسيّة وتاريخ الدول دون إنشاء فلسفة تاريخ؟
بالنّسبة إلى “لاكوست”[31] وإن كان “ابن خلدون” يجهل مفهوم التقدّم المعروف كتطوّر مسترسل، فإنّه يحتفظ بفكرة فلسفة تاريخ هي بحصر المعنى متجذرة في سياق التطوّر الدوريّ لدوّل المغرب. وأمّا بالنسبة إلى “نصيف نصّار”، لا يستطيع المجتمع البدويّ ولا فلسفة القرآن ولا التفكير الأشعريّ أيضا أن يزوّدوا “ابن خلدون” بما به يعدّ فلسفة تقدّم خطّيّة . وبالنّسبة إلى “روزنتال” لا توجد فلسفة تاريخ عند “ابن خلدون”[32] . يؤاخذ “ابن خلدون” إذن على دوريّة تاريخه ويرى “نصيف نصّار” أنّه اقتصر مع ذلك على جدليّة مغلقة تصل إلى تجميع عبر الضمّ لا عبر الإدماج[33] . وقد يعود هذا إلى أن يطلب من “ابن خلدون” أن يعتنق أفكار تاريخ تقدّمي على طريقة “كوندرسي” أو “هيقل” .
لم نعلّل هنا غياب هذه الفكرة التي ولدت في سياق ابستمولوجي وتاريخي محدد ، ولكنّنا نريد أن نؤكّد مرّة أخرى أنّ هذه الدوريّة لا تعني على وجه الإطلاق العودة الأبديّة للتّاريخ نفسه، والبداية الأبديّة للأشياء من جديد . إنّها دوريّة تشمل الاختلاف والتبدّل. ولقد كتب “الطّالبي” : “إنّ تصوّر “العمران” ، عند “ابن خلدون” محكوم بمعاني (أفكار) الحركة والتبدّل والتحوّل والتطوّر والاستحالة الأبديّة إلى حدّ لاحظ “ابن خلدون” : أنّنا نشعر أحيانا بأنّنا نعيش تماثلا حقيقيّا فلا شكّ إذن أنّ المجتمعات تتطوّر” [34]
هذا هو العنصر الأساسي لفلسفة التّاريخ عند “ابن خلدون” ، فهي فلسفة تقصي كلّ تمشّ غير تجريبيّ ( الميتافيزيقا / علم التنجيم / الكيمياء ) ولكنّها تدمج كلّ إيجابيّة للخطاب (واقعية / ملاحظة علمية / منطق)، ليبني علم التّاريخ الكونيّ أو “علم العمران البشري”. والتّاريخ بهذا المعنى عند “ابن خلدون” هو تاريخ التطوّر الاجتماعيّ .
وحين ننعم النّظر يتّضح أنّه داخل هذا المفهوم يشغل كلّ عنصر موقعا وظيفيّا على نحو، أنّ العقليّ والشرعيّ لا يجب أن يعتبرا كعنصرين متناوبين وإنّما كعنصرين متكاملين . هكذا يستبين أنّ فلسفة التّاريخ عند “ابن خلدون” هي تحليل عميق وحديث للعلوم الشرعيّة والعلوم العقليّة داخل عقل التّاريخ الذي عاشه العرب المسلمون.
******
*Fathi Triki :L’esprit historien dans la civilisation arabe et islamique maison Tunisienne de l’Edition Faculté ,des Sciences Humaines et Sociales de Tunis
[1]Mahdi , M , Ibn Khaldun’s philosophy of history , London
Nassif ,N, La pensée réaliste d’Iben Khaldun , PUF , Paris , 1967 . [2]
[3] عبدالرحمان ابن خلدون ، المقدمة لـ كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1993.
[4] أبو نصر الفارابي ، كتاب أراء أهل المدينة الفاضلة ، بيروت اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع – القاهرة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية 1980 ص 102.
[9] الفارابي ، مصدر سبق ذكره ، ص 102.
[12] Carré , Oliver , Ethique et politique chez Ibn Khaldun L’année sociologique v ,39 , 1979 , Paris , PUF, 1982 .
[13] ابن خلدون ، المقدمة ، ص 615 .
[14] Carré , Oliver , Ethique et politique chez Ibn Khaldun , p , 112 .
[15] نصيف نصار – مرجع سبق ذكره – ، ص68.
[16] المرجع ، هو هو ، ص 80/81 .
[17] ابن الهيثم ، تنقيح المناظر ، جمعه وشرحه كمال الدين الفارسي ، طبعة الهند 1347 ، ص 15/14.
[18] عبدالرحمان بدوي ، مؤلفات ابن خلدون ، الدار العربية للكتاب ، تونس – ليبيا ، ط2 ، 1979 ، ص 40 .
[19] ابن خلدون ، المقدمة ، مصدر سبق ذكره ، ص 873 .
[20] ابن خلدون ، مصدر سبق ذكره ، ص 847 .
[21] الجابري – محمد عابد – العصبية والدولة ، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي ، الدار البيضاء 1971، ص 119.
[22] محجوب بن ميلاد ، مكانة ابن خلدون في الفكر الإسلامي ، مجلة الحياة الثقافية / السنة 05/ عدد 09 ماي – جوان ، تونس 1980.
[23] عبد السلام المسدي ، الأسس الاختبارية في نظرية المعرفة عند ابن خلدون ، مجلة الحياة الثقافية ، السنة 05/ عدد09 / ماي – جوان ، تونس 1980 . انظر أيضا كتابه : قراءات ، الشركة التونسية للتوزيع – تونس 1981 ص 150 .
[24] علي الوردي ، منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته ، الشركة التونسية للتوزيع / تونس 1977 ، ص 223.
[25] ابن خلدون ، المقدمة ، مصدر سبق ذكره ( الباب السادس / فصل 20 )
[27] Abdessalem Ahmed , Ibn Khaldun et ses Lecteurs , PUF, Paris ,1959 , p 13
[28] محمد الطالبي ، منهجية ابن خلدون التاريخية ، الحياة الثقافية ، السنة 05/ ماي – جوان 1980 .
[29] ابن خلدون ، المقدمة – مصدر سبق ذكره .
[30] محمد الطالبي ، مرجع سبق ذكره ، ص 43 .
[31] Lacoste (Y) , Ibn Khaldun , N aissance de l’histoire ; passé du tiers monde ; Maspéro ; Paris ; 1966 ; p 128 .
[32] Rosenthal (F) , a history of Muslim Historiography brill leiden
[33] نصيف نصار ، مرجع سبق ذكره ، ص 254
[34] محمد الطالبي ، مرجع سبق ذكره ، ص 92 .
******
الإحالات والهوامش:
*Fathi Triki :L’esprit historien dans la civilisation arabe et islamique maison Tunisienne de l’Edition Faculté ,des Sciences Humaines et Sociales de Tunis
Mahdi , M , Ibn Khaldun’s philosophy of history , London –
Nassif ,N, La pensée réaliste d’Iben Khaldun , PUF , Paris , 1967 –
– عبدالرحمان ابن خلدون ، المقدمة لـ كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1993 .
– أبو نصر الفارابي ، كتاب أراء أهل المدينة الفاضلة ، بيروت اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع – القاهرة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية 1980..
- Carré , Oliver , Ethique et politique chez Ibn Khaldun L’année sociologique v ,39 , 1979 , Paris , PUF,
1982 .
ابن الهيثم، تنقيح المناظر، جمعه وشرحه كمال الدين الفارسي، طبعة الهند 1347 .
عبدالرحمان بدوي، مؤلفات ابن خلدون، الدار العربية للكتاب، تونس – ليبيا ، ط2 ، 1979.
الجابري – محمد عابد – العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، الدار البيضاء 1971.
محجوب بن ميلاد، مكانة ابن خلدون في الفكر الإسلامي، مجلة الحياة الثقافية / السنة 05/ عدد 09 ماي – جوان، تونس 1980.
عبد السلام المسدي، الأسس الاختبارية في نظرية المعرفة عند ابن خلدون، مجلة الحياة الثقافية، السنة 05/ عدد09 / ماي – جوان، تونس 1980.
انظر أيضا كتابه : قراءات، الشركة التونسية للتوزيع – تونس 1981.
علي الوردي، منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته، الشركة التونسية للتوزيع / تونس 1977، ص 223.
Abdessalem Ahmed , Ibn Khaldun et ses Lecteurs , PUF, Paris ,1959
محمد الطالبي ، منهجية ابن خلدون التاريخية ، الحياة الثقافية ، السنة 05/ ماي – جوان 1980 .
- Lacoste (Y) , Ibn Khaldun , N aissance de l’histoire ; passé du tiers monde ; Maspéro ; Paris ; 1966 ..
- Rosenthal (F) , a history of Muslim Historiography brill leiden