اللّامَرْئِيّ المُتحكِّمُ فينا: قراءة في رواية “لن نَعبُرَ الجسرَ مَعًا” للطفي الشّابيّ

“الثّقافة هي ما فعلَهُ الآخرونَ بي، أمّا الفنّ فما أفعَلُهُ أنا بالآخَرِين”

كارل أندري (Carl André)

 

لم يَكُنْ “دالِي” بطلُ رواية لطفي الشّابّي “لن نعبُرَ الجسرَ معًا”[1] جادًّا عندما قدَّمَ نفسَه إلى الطّبيبِ النّفسيّ ووصفَ له مرَضَهُ قائلا: “اِسمي محمّد عليّ الدّالي، عمري خمسونَ عامًا، فنّان تشكيليّ وأستاذ في المعهد العالي للفنون الجميلة، متزوّج ولي ولد عمره سبعُ سنوات. أُعاني من داءٍ عُضال (…) إدمان العلاقات الغراميّة الافتراضيّة”. لم يكن “دالي” جادًّا لأنّه- كما يقول بنفسِه- يعرِفُ حقيقةَ هذا الدّاء. ولكنّه عاجِزٌ عن إقناعِ “فاتِنٍ” زوجته به، وهي أقربُ النّاسِ إليه. فهو يعلمُ علمَ اليقينِ أنَّ هذا الطّبيبَ لا يَملِكُ حلّا لمُشكِلَتِه، بل هو شخصيّةٌ فُضُوليّةٌ “استحالتْ إلى أُذُنيْنِ كبيرَتيْن وعَيْنَيْنِ واسِعَتيْن”. إنّه شخصيّةٌ مُخادِعة ترتدي قناعَ الطّبّ وعلومِ النّفسِ من أجلِ التّحيُّل والإيقاعِ بالمَرضَى. لم يَخرُجْ من عنده “إلا بشعورٍ راسِخٍ بأنّه يبيعُ الأوهامَ ويتحيّلُ على مَرضاه، ويَسرقُ منهم مبالِغَ كبيرَةً على دُفعاتٍ مُقابِلَ كلماتٍ واِبتِساماتٍ”.

يقولُ “دالي” في نفسه قبل الدُّخولِ إلى مكتبِ هذا الطّبيب: “ما الذي يجب أن أقولَهُ لهذا الفُضُوليِّ؟ هذا الذي يتوَهَّمُ أنّه يَملكُ ترياقًا لِمَرَضِي، ويُوهِمُني بأنّه يستطيعُ أن يُعالِجَنِي بالكلامِ المُنمَّق بِمُصطلحاتٍ يُنضِّدُها ويَسْتعرِضُها كما يستعرِضُ العرّافُ التّمائمَ والرُّقَى”. (ص 76-78)

المُثَقَّف والوعي التّراجِيديّ:

عندما كنتُ بصددِ قراءة “لن نعبُرَ الجسرَ معا”، كانَ هناكَ شيء ما يَدعُونِي مِرَارًا إلى تذكُّرِ رواية “اِذهبْ حيثُ يَقودُكَ قلبُكَ” للكاتبة الإيطاليّة: “سوزانا تامارُو”[2]. أعتقدُ أنَّ هاتَيْن الرِّوايتيْن مُتكامِلتانِ، أيْ تُكمّل الواحدةُ منهما الأخرى. فشخصيّة الطّبيب النّفسيّ المُتحيِّل كانت أكثرَ وُضُوحًا وتفاصِيلَ في الرّواية الإيطاليّةِ. كما إنّ شخصيّةَ البنت “إيلاريا” قد أُصيبتْ بما أُصيبَ به “دالي” في رواية لطفي الشّابّيّ، وهو مرَضُ “البحث المحموم عن الهُويّة” أو المرضُ الذي يَنشَأ من مُحاولاتِ إعادة التّعرُّفِ إلى الذّاتِ واِكتِشافِها من جديد، أو تلك الأعراضُ النّفسيّةُ النّاتِجةُ عن مُحاولةِ تحويلِ الجانبِ اللامرئيّ من هُويّتِنا إلى العالم المَرئِيّ. فكيف كانَ ذلك في الرّوايتَيْن؟

“دالي” قادَتْهُ ذاكرتُه إلى مَشهدٍ رآهُ من ثُقبِ الباب حين كان طفلا، وهو مشهدُ أُمِّهِ وهي تَخُونُ أبَاهُ مع عَمِّهِ. كانَ المشهدُ ضَبابيًّا في ذلك الوقت. لكنّ الزَّمنَ وضَّحَه شيئًا فشيئًا، ممّا جعلَ حالتَهُ النّفسيَّةَ تتعكَّرُ مع الأيّام. فالمشكلة الكبرى هي إعادةُ طرحِ سُؤال الهُويّة بعد اِنكشاف الوجه الآخر من عالمِ الذّات، وهو العالم اللّامرئِيّ الذي اِنقلبَ إلى عالمٍ يُمكِنُ رُؤيتُهُ، إذْ أصبحَ من الممكنِ بعد هذه الرُّؤيةِ أنْ يَكونَ العمُّ هو الأب والأب هو العمّ.

لم تكُنْ حياةُ “إيلاريا” في روايةِ “سوزانا تامارو” حياةً عاديّةً، فهي قد وُلدت بعيدَ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية، وكانت طفولتُها مُتقلِّبةً كتقلُّبِ الأجيال التي لَفظتها هذه الحربُ في الخمسينيّات والسّتّينيّات. اِنخرطت في حركات الطّلبة الجامعيّة وفي الجمعيّات النَّسويّة والتّيّارات الفوضويّة المنادية بالتّحرّر الجنسيّ، تلك التي صاحبت أحداث ماي 1968 في فرنسا. كانت تنظرُ إلى الجنس باعتبارِه وظيفةً من الوظائف الفيزيولوجيّة التي لا تستحقُّ كلَّ ما تحويه من ثقافةٍ صنعها الإنسانُ من أجل تزييفِ العلاقات البشريّة وتعقيدِها. فكانت النّتيجةُ أنّها حمَلت وأنجبتْ بنتًا دون أن تتمكّنَ من تحديد هُويّةِ أبيها، باعتبارِ أنّها شاركت في حفلة تنكُّريّةٍ في اليونان نتج عنها اِختلاطٌ جنسيّ ممّا يجعل عمليّةَ تحديدِ الأب في تلك الظّروفِ أمرًا مُستحيلا.

وقد كانت تلك الأحداثُ سببا في اضطرابِ شخصيّة “إيلاريا”، فذهبت لتُعالِجَ عند الطّبيب النّفسيّ الذي استغلَّ وضعَها وأقنعها بأن تُمضِيَ على ضمانات ماليّة كبيرة بطريق التّحيُّلِ، وهي غير قادرة على دفع تلك المبالغ، ممّا زاد من توتيرِ علاقتِها بأمّها “أولغا”. وفي معمعانِ التّوتّرِ بين الأمّ “أولغا” وابنتها “إيلاريا”، قرّرتْ الأمّ في لحظةٍ من لحظاتِ غضبِها أنْ تصدَعَها بالحقيقة التي لم تَقوَ على تَحمُّلِها، وهي أنَّ أباها الحقيقيَّ لم يَكُنْ “أوجوستو” الذي تعرِفُه، بل هو رجلٌ آخرُ أحبّتهُ أكثرَ من زوجِها. لم تتحمّل “إيلاريا” هذه الحقيقة الصّادِمة وماتت في حادثِ مُرورٍ في اليومِ نفسه الذي اكتشفت فيه الحقيقة. وتركتْ لها تلك الحفيدةَ التي ستتولَّى الجدَّةُ في ما بعدُ إخبارَها شيئا فشيئًا بكلِّ تلك الأسرار التي وَرِثَتها رغما عنها.

الفرقُ بين شخصيّة “دالِي” وشخصيّة “إيلاريا” في الرّوايتَيْن لا تتلخَّصُ في اختلافِ شخصيّة الفنّان عن الشّخصيّة الاجتماعيّة اليوميّة. وإنّما في اختلاف الشّخصيّة الغربية عن الشّخصيّة الشّرقيّة في مواجهة العالم اللامرئيّ المُتحكِّمِ فينا.

بطلة الرّواية الإيطاليّة اكتشفت الحقائقَ فجأةً، فكان ذلك سببًا في موتِها، لأنّها لم تتحمَّلْ وَطْأةَ الانتقال الفُجئِيِّ من العالم المَرْئيّ إلى العالم اللامرئيّ الذي كانتْ تحملُهُ، بل تَرِثُهُ داخِلَها لكنّها لا تراه، وهو جُزءٌ منها لا يُمكنُ فصلُهُ عن كيانِها. هو مرَضٌ غيرُ معروفٍ وغيرُ مكشوفٍ، ولكنّها تُعاني من آلامِه وترَى أعراضَهُ ولا تقدِرُ على تشخيصِه. أمّا دالي فلم يَكُنْ انتقالُهُ من العالم المرئيّ إلى اللامرئيّ انتقالا فُجئِيًّا وقاتِلا، بل كان مُلَطّفًا ومُمتدًّا اِمتدادَ الرِّواية، وعبرَ جُسُورٍ متعدِّدة أهمُّها الرّسم والحُلم واللّغة والكتابة والذّاكرة وجسد المرأة… من أجلِ ذلك كانَ اِكتشافُ دالي لحقائقِه الصّادمةِ منذ طفولتِه اكتشافًا مُتأخِّرًا، أي عبر اِستعادةِ الصُّورِ عن طريق جهاز الذّاكرة، ذلك الجهاز اللّعينُ الذي يَشُدُّنَا دائِمًا إلى العالم المرئيّ، ويُوهِمُنا أنّنا نرى الأشياءَ على حقيقتِها، ولكنّنا في الحقيقة لا نراها. ومن أجلِ ذلك أيضًا لم يتجرَّأ “دالي” على الموت مثلما تجرَّأتْ عليه “إيلاريا”. ولم يَتجرَّأْ أيضًا على الجُنون مثلما تجرّأت عليه “أوفيليا” في هاملت. شيء ما بداخِلِه يمنعُهُ أن يَكونَ بطلا تراجيديًّا مثلها أو مثل “أوديب” و”أوفيليا” و”عطيل” وغيرهم… لقد كان اِكتِشافُهُ لِهُويّتِه ذاتِيًّا ومُتدرِّجًا، فيكونُ بذلك قد تجنَّبَ اللّحظةَ التّراجيديّةَ، أو نجحَ في تخفيفِ صَدْمَتِهَا عبر نَشْرِها على اِمتدادِ الزّمنِ والذّاكرة.

يقول “دالي: “كنتُ أبحثُ عن نفسِي في هذا العالم الواسِعِ كصحراء، عن رُوحي التي لا أعرفُ ما الذي تطلُبُه. فكيف أشرحُ لفاتن كلَّ هذا التّيه؟ كيف أُقنِعها به وأنا نفسي لا أفهمُهُ ولا يُقنِعُني؟ في الغَيباتِ كُنتُ أنسَى رُوحِي. أو رُبَّما ألتقِيها وأتعرّفُ عليها، لا أدري. كُلُّ ما أعرِفُهُ أنَّ الغيابَ عَلَّمَنِي كيف أرتاحُ. كنت أستعيضُ عن الوقتِ بالأمكنةِ القَصِيَّةِ التي رُبّما لم يَعُدْ لها وُجودٌ إلّا في أقاصِي الذّاكِرة”. (ص 154)

ثمّ يُضيف في موضعٍ آخرَ: “لم أكنْ أكفّ عن تذكّر ما مضى. كنت أعرفُ أنَّ ترتيبَ فوضى الحياةِ المُنقضِية هو الطّريق الوحيد لاِسترجاعِ بعضِ ملامحِها. الوُجوه الغائمة. الكلمات المرتعشة. المشاهد الملتبسة. الصّمت. الرّغبات المكتومة في خضمّ الأشواق… في فوضى الصّور نجمتْ رغبةٌ قويّةٌ في الهروب من كلّ ذلك الضّوء الصّاخب. الهروب إلى أعماقي الرّاكدة والبحث عن نقطةِ ضوء صافيةٍ تجلي ملامِحَ حُلمٍ بعيدٍ يحلم بالعودة إلى الحياة. عن ذلك الحلم الغافي كنتُ أبحثُ. عن الصّوت الذي لا لون له. عن الوجوه التي لا صوتَ لها. عن الشّرود الذي انفصل عن الحسّ وعن القلب”. (ص 163)

يقول “ادوارد سعيد”: “إنّ التّجربة المأسويّة” لم تكن مرتبطةً بالتّراجيديا، بل بـ“الرّعب” أيضًا. “فالإقرار الجذريّ بالحقيقة هو تلك اللّحظة الحاسمة، حيثُ يرى الإنسانُ نفسَه مُجدَّدًا فينقضّ عليه رُكامٌ من المخاوف والتّناقضات والرّعب الصّاعق. ويحاصره من كلّ الجهات وُجودُهُ وقَدَرُهُ أو هُويّتُه، كما في حالِ أوديب حين تُواجِهُه هُويّتُه كقاتِلٍ لِأبيه وزَوجٍ لِأُمّه وحاكِمٍ للمدينة في آنٍ. فيرَى ذلك كلَّه. ما مِن إنسانٍ يقدِرُ أن يُعانِيَ أكثرَ من مرَّةٍ وَقْعَ ما يُسَمِّيه أرسطو “Anagnorisis” (الاكتشاف) و”Péripétia” (اِنعِكاس الأوضاع)”[3].

يقول “دالي”: “منذ طفولتي البعيدة كُنتُ أرى ما لا يَرَوْنَ، وكنتُ أكتُمُ ما أرَى، وأعيشُ الرُّعبَ وَحدي في اِنتِظارِ وُقُوعِ ما رَأيتُ: الموت. كُنتُ أستَبِقُ موتَ الأقرِباء الذين أُحبُّ ويُحِبُّونني. أراهُم في المنامِ يَأتُونَ إليَّ مُوَدِّعِينَ. يبتسِمُونَ بِوَدَاعةٍ، أو يَبكُونَ في صَمتٍ بارِدٍ، ويَنأَوْنَ في الأفقِ البعيد المُظلِمِ حتّى تَبتَلِعَهُمْ الظّلماتُ، فلا يبقى منهم غير صَدَى كلماتٍ ناحِلةٍ أو نشيجٍ ضعيفٍ”. (ص 42- 43)

يتهرَّبُ “دالي” من الموت ومن الجُنون، لأنّه لا يُريدُ أن يَدفعَ ضريبةَ اِكتشافِه للعالم اللّامرئيّ كما فعلَ الأبطالُ التّراجيديّون. فيقولُ: “هذا هو الجنون الذي عليَّ أن أقتلعَه من أعماقي. أنا حالة مُركّبة أريد أن أبرأ منها”. (ص 59)

إنّ الوعي التّراجيديّ كما يُفسِّرُه “إدوارد سعيد” هو: “أنْ نَرَى فلا نعودَ أبدًا كما كُنّا”[4]، وهو ما يتضمّن خطرَ الموت أو الجنون الذي قبلتهُ “ايلاريا” و”أوفيليا” وقبِلَه “أوديب” ولم يَقبَلْهُ دالي في روايتنا. لأنّه، بكلّ بساطةٍ، يُريدُ أنْ يَرَى ويَكتشِفَ ثمّ يعودَ بسُرعةٍ إلى الوضعِ الذي كانَ عليهِ قبل الرُّؤية والاكتشاف. والحالُ أنَّ التّراجيديا تقومُ على التّضحية ودفع الثّمن غالِيًا، فتلك هي ضريبةُ المعرفة الجديدة. إذن فـ”دالي” هو صورةُ المُثقَّف العربيّ عامّةً، والمُثَقَّف التّونسيّ خاصَّةً، ذلك المُثقَّفُ الذي لا يُريدُ أنْ يتحمَّلَ ثمنَ المعرفة. إنّه “مُتهرِّبٌ ضَرِيبِيٌّ” بامتياز. يَدَّعي أنَّه يعيشُ الثّورةَ ولكنَّه لا يُريدُ تحمُّلَ تبَعاتِهَا، لأنَّهُ يخافُ إذا تَعرَّفَ إلى نفسِهِ التي كانَ يجهلُها، أن يَعيشَ مُغامرَتَهُ الثّوريَّةَ بهُويَّةٍ جديدةٍ. إنَّ اللّحظةَ الثّوريّةَ تعني في أهمِّ ما تَعنِيهِ أنْ نَكونَ مُستعِدّينَ لِخوضِ مُغامرةِ العُبُورِ إلى أرضٍ جديدةٍ. وهذا العُبُورُ يتطلَّبُ منَّا “بِطاقاتِ هُويَّةٍ” جديدةٍ، وهي بطاقاتٌ تحمِلُ صُوَرَنا الحقيقيّةَ التي لم نكُنْ نراها في السّابق. لكنّنا في الحقيقةِ يَعزُّ علينا التّفريطُ في ذواتِنَا القديمةِ، فنحاولُ عبثًا المُرُورَ إلى عوالِمِنا الجديدةِ بِهُويّاتِنا القديمة وتصوُّراتِنا الماضِيةِ لِأنفُسِنَا، أيْ لِما كُنَّا نعتقِدُ أنّها صُوَرُنَا الحقيقيّةُ. وبعبارةٍ أخرى، ليست لدينا الشّجاعةُ الكافيةُ لِأنْ نعبُرَ الجسرَ بُهويّاتِنا الجديدةِ التي رأيناها في المرآةِ، فبدتْ لنا فظيعةً، فأصْرَرْنَا على إنكارِها، وأبَيْنَا إلّا أنْ نعبُرَ باِستخدامِ هُويَّاتِنا القديمة، رغم أنّنا اِكتشفنا أنّها أصبحتْ مُزَيَّفةً ولم تعُدْ صالِحةً للعُبُور.

تقول “سوزانا تامارو” على لسانِ الأمّ أولغا: “إذا وَجدَ الإنسانُ نفسَه فجأةً عارِيًا، يجب أن تكونَ لديه الشّجاعةُ لِيَنظُرَ في المرآة ويرَى حقيقتَه. هل كان عليَّ أن أبدَأ كلَّ شيء من جديد؟ فعلا، ولكنْ مِن أين؟ مِن نَفسِي؟ وبِقدرِ ما كانَ سهلا قولُ هذا، كان التّنفيذُ صعبًا. أين كُنتُ؟ مَنْ كُنتُ؟ مَتى كانتِ المرَّةُ الأخيرةُ التي كُنتُ فيها نَفسِي؟”[5]

المُثقَّف الكُوميديّ أو الدّونكيخُوتِيّ:

يقولُ هاملت لصديقِهِ عند انكشاف الحقيقة التي كانت غيرَ مَرئيّةٍ وتحوّلت إلى عالم الرُّؤية فجأةً: “إنّ في الأرضِ والسَّماء أكثرَ ممّا تحلُمُ به فلسفتُنَا”. إنّ الإنسانَ يَدَّعِي أنّه قادِرٌ على فهمِ كلِّ شيء ومعرفةِ حقائقِ الأشياء، لكنّه يتغافلُ عمّا يُسَمِّيه ادوارد سعيد بِـ: “مفهوم ما لا يُحَلُّ بالفكر، أو مفهوم اللامعقول والخُرافيّ وغير الرّصين، وما يتمتّع بقوّة الرّمز (مقابل المعقول الواضح) والمُهَدَّم، والصَّامِت، وما لا يُرَى في حياة الإنسان”[6].

يقول دالي في الرواية: “والعالم يدور. والدّنيا تتبدل، ونحن كما نحن، نجترّ الأحلامَ القديمةَ المُجهضَةَ ونقول: غدا تتحقق، ولا شيء يتحقّق ويكبُرُ غير الأوجاع والخيباتِ والخيانات. حلَّقنا عالِيًا يا رِفاقَ الأمسِ أكثرَ ممّا ينبغي، اِرتفعنا في الأحلام، ونسينا في غمرةِ التّحليقِ المشيَ على الأرضِ. نسينا الأرضَ”. (ص 127)

أعتقدُ أنَّ مَشهَدًا واحِدًا في الرِّوايةِ بأكملِها يُمكن أن يُلخِّصَ هذه الفكرةَ بكثيرٍ من البلاغة والشِّعريّة والكاريكاتوريّة: وهو المشهدُ الذي يتحدَّثُ فيه “رياض” المُحلِّل السِّياسيّ عن الوضع في البلاد عبر القناة الوطنيّة، مُدَّعِيًا بتفاؤلِهِ السّاذجِ أنّ وضعَ البلادِ بعد الثّورة أحسنُ بكثيرٍ ممّا كان، ومُستبشِرًا خيرًا بالوجوه السّياسيّة الجديدة، بينما زوجتُهُ “سناء” تخونُه في الوقتِ نفسِه مع “دالي” في منزلِها في الوطن القبليّ مُطمئِنَّةً بأنّه لنْ يأتِيَ، لأنّه يتحدّثُ آنذاك على الهواء مباشرةً في استوديو القناة بتونسَ.

ما أبعَدَ شخصيّةَ رِياضٍ عن اللّحظَة التّراجيديَّة ! فهو لم يَكتشِفْ هُويَّتَهُ أصلا، وظَلَّ عالمُهُ الدّاخِلِيُّ خافِيًا عن ناظِرَيْهِ، وضُرِبَتْ على أُذُنَيْهِ الأكِنَّةُ حتّى لا يَسْمَعَ تَأوُّهاتِ زوجتِهِ مع عشيقِهَا في اللّحظةِ التي يتلَذَّذُ هو فيها بِتحليلاتِه السِّياسيّة وباِدِّعائِه إلمامَهُ بالشّأن العامِّ الوطنيّ. إنّها خصائصُ الشّخصيّة الدُّونكيخوتيّة المُثيرةِ للضَّحِكِ والسُّخرية، حيثُ نجحَ كاتبُ الرِّواية في تقديمِها لنا في صورةٍ كُوميديّة. تماما كما نَجحتْ سوزان تامارو في تقديمِ شخصيّة “أوجوستو” زوج “أولقا” الذي صَدَّقَ أنَّ زَوْجَتَهُ حَامِلٌ منه رغمَ عِلمِهِ بعجزِهِ الجِنسِيِّ. فقد اِقتنَعَ أنَّ المحطَّةَ الاستشفائيّةَ التي سافرتْ إليها زوجتُهُ في شمال إيطاليا، ومكثتْ فيها أُسبُوعَيْن، كان لها دورٌ حاسِمٌ في تَخلُّصِها مِن العُقم وحَملِها لابنتِها “إيلاريا”، ممّا جعلَهُ يتباهَى بفُحولتِهِ الوهميّةِ وقُدرتِه على الإنجابِ أمام عائلتِه. والحالُ أنَّ “أولغا” عندما سافرت إلى تلك المحطّةِ تعرّفتْ إلى الطّبيب “ارنستو” الذي يعملُ هناكَ، فشَغَفَها حُبًّا وجعلَها تعيشُ أحلَى لَحظاتِ حَيَاتِهَا. وكانت “إيلاريا” ثمرَةَ هذا الحُبِّ الصّاعِقِ. رجعتْ إلى أهلِها تَحمِلُ جَنينَها في بَطنِها، فاِستقبَلُوها بكُلِّ ما أُوتُوا مِنْ عَظيمِ الفرحةِ وصادِقِ الشُّعورِ. وكانَ أبُوها الشّيخُ الطّاعِنُ في السِّنِّ قد نَصَحَها بالاستشفاءِ بالمياه المعدنيّة، وخَشِيَ أن يَمُوتَ دونَ رُؤيةِ حَفيدِهِ. فشَكرَ السَّماءَ التي رَزَقتْهُ هذه الهديَّةَ قائِلا لِابنتِهِ: “لقد قُلتُ لكِ إنَّ الماءَ هو أساسُ الحياةِ”.

قد لا نَجِدُ أبلغَ من الفيلسوف الفرنسيّ “برجسون” Bergson في تحديدِ ماهيّة اللّحظة الكُوميديّة أو الهزليّة: le comique، إذ يعتبِرُ في كتابِهِ “الضّحك Le Rire” أنّ الشّخصيّةَ لا تبدُو لنا مُضْحِكةً إلا إذا جَهِلَتْ نفسَها وكانت غيرَ واعيَةٍ بذاتِها، فهي لامَرْئيَّةٌ لنفسِها، مَرئيّةٌ للآخرين:”Il se rend invisible à lui-même en devenant visible à tout le monde”[7]. وهو ما ينطبق على مُعظم الشّخصيّاتِ الكوميديّة في تاريخ الآداب العالميّة (ابن القارح في رسالة الغفران- دون كيخوت- Harpagon و Jourdain عند موليير وغيرهم…) تماما كما ينطبق على شخصيّة رياض في رواية لطفي الشّابّيّ أو شخصيّة “أوجوستو” في رواية سوزانا تامارو. وقد لخَّصَها الجاحظُ بوضوحٍ في كتاب “البُخلاء” عند الحديثِ عن نادِرَةِ دجاجةِ أبي الهُذيل العَلّاف قائِلًا: “والآخرُ يَضْحَكُ ضَحِكًا نَعرِفُهُ نحنُ ولا يَعرِفُهُ أبو الهُذَيلِ”[8].

إنّ حديثَ “رياض” عبر التّلفزة وتحليلاته السّياسيّة، هي ذلك العالم المَرْئيّ الذي نَدَّعي أنّنا نعرِفُهُ ونُحيطُ بأجزائِهِ وتفاصِيلِه. أمّا ما تفعلُهُ سناء مع “دالي” في خيانَتِها لِرياض، إنّما هو العالم اللامرئيّ الذي فيه حقيقتُنا لكنّنا لم نتمكّنْ من رُؤيتِه. وإذا ما رأيناه فإنّنا لا نُصدِّقُهُ، أو نتظاهرُ بأنّنا لم نَرَهُ. فلا نعيشُ تجربتَنا التّراجيديّة، بل نتحوّلُ إلى شخصيّات دونكيخوتيّة.

ذلك هو مَصيرُ تجارِبِنَا المعرفيّة ولحظاتِنا الثّوريّة ومَخاضَاتِنا الإبداعيّةِ. لقد رَفَضنا جَميعًا تَحَمُّلَ أوزَارِهَا وتَبَعاتِها، وعَزَّ عليْنا جَميعًا أنْ نَنْصَهِرَ في مَعمعانِها ونَنجَرِفَ في تلافيفِ تيّاراتِهَا. وخَشِينَا على أنفُسِنَا مِنْ فِقدانِ لَذَّةِ الاِنتِعاشِ بِأوهامِنا. فلا نَحنُ أسَّسْنَا فِكرًا جديدًا، ولا عَرَفنَا ماذا سَنَفقِدُ بالتّحديد. لقد كانتْ خطيئتُنا كما عايَنَها “ادوارد سعيد” مُتلخِّصَةً في “تَجنُّبِ أزمةِ الهُويّةِ”. لماذا لم نُواجِهْ عوالِمَنا التي اِنكشفت لنا فجأةً؟ “لماذا لم نَقُلْ مَنْ نحنُ لِأنفُسِنَا وللآخرين على الصَّعيدَيْنِ الجَمعِيِّ والفَرْدِيِّ؟ … إنّنا لا نُجابِهُ شَيْئًا مهما كانَ حادًّا وفظيعًا، بل نُسارِعُ إلى عائِلاتِنا، إلى مُدُنِنَا، إلى جُيُوشِنَا مِنْ أجلِ الدّعمِ أو المُسامرة وشُربِ القهوة… إنّنا لا نمتلكُ مؤسَّساتٍ أو تقاليدَ لِمعرفةِ الذّات”[9].

إنَّ “دالي” في الرّوايةِ يعرِفُ أنَّ هناكَ مُشكلةً يُعانِي منها لكنّهُ لم يَدْرِ أنّها مُشكلةٌ هُوويّةٌ عجزَ عن تشخيصِها، فقالَ: “أحيانًا أشعُرُ أنّني اِثنان: واحِدٌ يَلعبُ ويُغامِرُ، وآخرُ يَرَى ويستمتِعُ. هذا الشّخصُ المريضُ هو أنا. وهذا المرضُ المُتمكِّنُ لا أفهمُهُ”. (ص 36)

******

[1] لطفي الشّابّي، لن نَعبُرَ الجسرَ معا، تونس 2019، دار الاتحاد للنّشر والتّوزيع، ط1.

[2] سوزانا تامارو، اذهب حيث يقودك قلبك، سلسلة “إبداعات عالمية”، الكويت، فيفري 2014، العدد: 399.

[3] إدوارد سعيد، التّمنّع والتّجنّب والتّعرُّف، مجلّة “مواقف”، العددان 19/20، 1 جانفي 1972، ص 37.

[4] المرجع ذاته، ص 37.

[5] اذهب حيث يقودك قلبك، ص 169.

[6] إدوارد سعيد، المرجع ذاته، ص 29.

[7] Henri Bergson, Le Rire : Essai sur la signification du comique, Paris 1964, Presses Universitaires de France, 203e édition, p13.

[8] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البُخلاء، بيروت، دون تاريخ، دار صادر، ص 193.

[9] إدوارد سعيد، المرجع ذاته، ص 35- 37.

قد يعجبك ايضا مشاركات هذا المؤلف

أضف تعليق

Share This