“واستمرت الأشجار في التصويت للفأس”.. دفاعًا عن بيروت / أحمد محسن
في الطريق إلى المعرض ستمرّ بالمرفأ المدمّر. أنياب العنابر ما زالت ناتئة والركام مكوّم حولها كجثث تأجّل دفنها. المرفأ ككتلة واحدة يشبه العاصمة التي تحاول بلا أي جدوى استعادة العلاقة مع البحر. لكن مروان رشماوي لاحظ على مدار سنوات طويلة أن البحر يبتعد عن مدينته. يغادرنا عندما نرحل، كما يقول الشاعر بسام حجار. عندما تصل إلى معرض الفنان الفلسطيني/ اللبناني في غاليري “صفير- زملر”، على أطراف الكرانتينا – شرق بيروت، والمستمر حتى الثاني عشر من آب/ أغسطس المقبل، فهذا لا يعني أنك نجوت على الأقل من صلافة المشهد. يفاجئك العنوان، كما لو أنه يدعوك إلى مزيد من القسوة: “واستمرت الأشجار في التصويت للفأس”.
تهشّم الشارع والطريق تحلّلت. ذابت. لا نفهم أيضًا كيف أنها لم تتبخّر. ليس فقط لأن الأبنية ما زالت تحتفظ بشظاياها، وعلى الأرجح أنها ستفعل ذلك لوقتٍ طويل، بل لأن مروان رشماوي ينقل العلاقة من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى الخارج، على نحو لا يدفع إلى الفهم بقدر ما أنه يفتح ممرات من شأنها أن تقود إلى “مكان ما”. بعد التجوّل في المعرض، خاصةً إذا كنت تعرف أعماله من قبل، ستكتشف أن هذا المكان قد يكون في الماضي، وقد تكون جزءًا منه، الآن، مثل بقية المواد المستخدمة في تشكيل عملاق اسمه المدينة. وقد يكون هذا هو المستقبل بالضبط. كما في المرّات السابقة، سنلاحظ أن الأعمال التي أمامنا ليست صامتة، بل هي أعمال تبذل جهدًا للتحدّث عن نفسها بنفسها. جهد لا يمكن تفسيره إلا بالوقوف خلف الزمن. إنها لحظات انتهت، غادرت، لم تعد موجودة كلحظات. صارت أحداثًا واستعادات. في أكثر من جناح في المعرض، وعلى امتداد أكثر من مساحة، تحت عنوان “غاليري”، يمكننا التجوّل في متحف الركام. ثمة ما يشبه التماثيل، أو محاولة التأكيد. ثمة انهيار يحدث.
“بعد التجوّل في المعرض ستكتشف أن هذا المكان قد يكون في الماضي، وقد تكون جزءًا منه، مثل بقية المواد المستخدمة في تشكيل عملاق اسمه المدينة. وقد يكون هذا هو المستقبل بالضبط”
يرفض رفضًا قاطعًا التسليم، أو أن يدير ظهره للغاليري، مثلما أدار البيروتيون ظهورهم للبحر مرغمين. ثمة ما حدث هنا، وهذه الشظايا، المتمثّلة بأكثر من نصف طن من المعادن الطائشة، ليست مجرد معادن يجمعها الفنان من جسد المبنى نفسه لكي ينقذ ما يمكن إنقاذه، بل هي أكثر من ذلك بكثير. إنها المعرض نفسه، والمدينة نفسها، مكوّمة فوق بعضها البعض: شظية فوق شظية، جرح فوق جرح، ذاكرة مع مواد صلبة بحيث لا يمكن زحزحتها بخطاب، مهما كان هذا كان الخطاب متماسكًا في ظاهره. ما يحاول أن يفعله هو التعبير عن المعنى، وليس عن الوجود. في “غاليري” لا يضّحي بالقيمة الأساسية للحظة، ولكنه يجعل الأمر برمته أشبه بمواجهة. وفي التدقيق يتضح أن التكافؤ ليس ضروريًا، بل ما هو مهم فعلًا هو حدوث المواجهة مع الذاكرة. ليس مهمًا من يربح في النهاية، وكيفية توزيع الخسائر. يجب الدفاع عن الوجود أولًا. ولهذا نجد المواد القاسية حاضرة بقوة: الإسمنت المسلح، الحديد، وسنجد زجاجًا وبقايا تلفزيون ونسائج إضافة إلى المطاطر والقطران. الانفجار يحدث على مراحل.
من أعمال مروان رشماوي في المعرض
“استمرّت الأشجار في التصويت للفأس”. يتحامل العنوان قليلًا على الأشجار. يحمّلها مسؤولية خسارة مواجهة غير متكافئة. ورغم أن الفأس مخادع ويقوم في أساسه على قطعة من الخشب يهوي بها الحطّاب على الضحيّة، إلا أنه يجهز عليها برأس مقوّسة ومسننة. لكن رشماوي غالبًا يقصد حيادنا تجاه التحولات، ومساهمتنا كأشجار لا تملك القدرة على المقاومة. هل التحوّل فقط سببه الباطون؟ الانفجار؟ النظام؟ يبدو أن ثمة خلافا بين المخططين المدنيين، وبين الفنانين، أو على الأقل ما يمكن أن يضيفه هؤلاء الأخيرون إلى قراءة التحولات. لكن ما يميّز رشماوي هو قدرته على الجمع بين النظرتين، من دون أن يُشعرنا أنه يقفز من زاوية إلى أخرى. تبدو فكرة المعرض بأسرها قطعة من فنية من قطعه، ثابتة في مكانها، ولكن الناظر إليها قابل للانتقال معها، أو نقلها إلى مكان آخر في ذاكرته القريبة أو البعيدة على حد سواء. قبل سبع سنوات نضج كل شيء.
“لا يمكن للعمل الفني، عمومًا، أن يكون منقطعًا عن الحقيقة. كلما حاول الاستقلال عنها، كان يستقل من نفسه، ويخسر بعدًا أنطولوجيًا أساسيًا”
في 2014 بدأ محاولاته باقتلاع الأعمدة من أمكنتها الزائفة. عمل مثل هذا لا يمكن إنجازه دفعةً واحدة، ولا يمكن أن نتوقع أن ينتهي. الفكرة أكبر من إنجازها في عمل واحد، ولذلك ما زالت مستمرة، وفي كل مرة نكتشف شيئًا جديدًا. الأعمدة ليست مجرد أساس هش لأبنية متصدّعة، بل إنها أفكار هشة أيضًا، وعقائد مثل الخرسانة، لا تصلح إلا للتزحلق. ما ينتج المدينة وينتج صورتها النهائية ليس النزعات الإستطيقية المجرّدة، بل تفاعل العناصر بين بعضها البعض. تتشكّل المدينة من الخارج على الطبقات، وكونه من الباحثين في الديموغرافيا وفي الحضريات التي تحدث داخل المدينة وحولها، يبدو ملمًا بالعلاقة بين الطبقات الخارجية والطبقات الاجتماعية. لا يمكن قراءة أعماله في أي سياق لا يعترف بهذه العلاقة. الأدوات المستخدمة ليست سوى تأكيد على رفض ما يحدث في الخارج، وإطلاق صوت يمكنه أن يكون مسموعًا. وهكذا يأتي بمواده من الشارع، ومن مكان الانفجار، ليعيد المواجهة بشروط أكثر عدالة، على الأقل لجهة الوقت، وليحدث ما يحدث بعدها. ولا يمكن للعمل الفني، عمومًا، أن يكون منقطعًا عن الحقيقة. كلما حاول الاستقلال عنها، كان يستقل من نفسه، ويخسر بعدًا أنطولوجيًا أساسيًا. عن مدينة مثل بيروت، وفي المعرض الذي يحدث على شكل تظاهرة صامتة قرب المرفأ، ينجح رشماوي في التعبير عن وجودية المدينة، وينجو من احتمالات تقليصها إلى «مجرد حدث»، يمكن أن يتمثل بمجموعة جماليات تحاكي بحثًا سطحيًا عن الجمال. على العكس من ذلك، يقدّم عملًا مرتبطًا بقضية هذه المدينة الأساسية، في لحظة حساسة من تاريخها، أي وجود المدينة، وبالتحديد معنى هذا الوجود.
جانب من المعرض
من هنا أيضًا، تبدو معرفة علاقة بيروت بالبحر غير قائمة على تسليم مجاني بجمال مفترض. في 13 قطعة، يعيد تحديد مواقع الأماكن الساحلية بدقة، كما هي فعلًا، وليست كما نعتقد. نعتقد أن الطرقات تتشابك داخل الخرائط، لكن الحياة تحدث خارجها، تمشي على أطراف أصابعها فوق الخطوط. وهكذا، يلتحم الإسمنت بالجغرافيا التحامًا لا لبس فيه، ويصادر أمكنة الناس. يختنقون تحت الخرائط، تحت الإسمنت، قبل أن ينفجر كل شيء. يبحث عن أصوات، تعترض على نهب الأملاك البحرية، على رمي النفايات في البحر، وعلى غرز البناء كسكين حاد في شريان المدينة: «بيروت والبحر» علاقة تقوم على النزف، لكن الاسم مخفف، لأن الحقيقة في التفاصيل. تساعد رشماوي خلفيته العلمية، ويدلنا في عمله الاستثنائي هذا إلى كل ما هو غير حيّ: المباني، الشوارع، المنشآت، ما أنجز من ذبح لأوردة المدينة، وما بقي معلقًا، على نحو يذكّر بمنهج هايدغر في تفسير العمل الفني، كأسلوب تحدث الحقيقة خلاله، كطريقة لكي تجد الحقيقة ذاتها في الوجود.
“يتحامل العنوان على الأشجار، يحمّلها مسؤولية خسارة مواجهة غير متكافئة. ورغم أن الفأس مخادع ويقوم في أساسه على قطعة من الخشب يهوي بها الحطّاب على الضحيّة، إلا أنه يجهز عليها برأس مقوّسة ومسننة”
هناك تصورات عن الفن وهناك فن يقدّم التصورات عن الوجود وعن الحقيقة. هناك صلة ما بين الأشياء. ورغم أن معظم أعماله تناولت بيروت تحديدًا، ولا سيما معرضه الفردي الأخير، إلا أن المدن البحرية الأخرى حضرت أيضًا. ستراه يعيده عرضًا لمسرح تجريبي، يطلب من خلاله إعادة الاعتبار لأوسكار نيماير، الذي ترك أعمالًا فنية في طرابلس، لكنها أغلقت في وجوه الناس. أعاد رشماوي إنتاج المسرح، كما لو أنه في منحوتته، التي تحاكي القبة الإسمنتية التي تركها الفنان البرازيلي في طرابلس قبل سنوات، يحاول تتبع النسيان، وكيفية حدوث النسيان في الزمن. لفرط حساسيته، ربما، من المدينة وتجاهها، استخدم الصمغ بدلًا من الإسمنت، عندما يعيد تمثيل القبة المحاصرة في الزمن. في طرابلس كما في بيروت، الذاكرة تسكن الباطون. لا يمكن محو الذاكرة. التذكّر والحنين أدوات فنية تشارك في العمل الفني. ومن شأن هذا الاستخدام عمومًا أن يؤثر على الشكل وأيضًا على المحتوى، ويجعل العلاقة بين العمل وبين الناظر أكثر ودّية، إذ أنها علاقة لا تمرّ بالفنان نفسه. ولذلك، فإن الحديث عن «التعاونية» وعن «بيروت والبحر» وبقية القطع المعروضة في غاليري صفير لا تختلف في صناعتها وحسب، بل في كيفية قبولها من الجمهور. هناك علاقة قامت على الانكسار وانتهت بالتشظي: قطع بورسلان غير مكتملة، قطع حديدية ظاهرة من بين أحجار الباطون الشاحبة. ثمة آثار على حدوث خلل ما، في التركيبة، في المدينة الخاطئة.
إلى جانب أعماله الفنية المركّبة، والتي لا تخلو أحيانًا من التعقيد، يذهب رشماوي إلى المنحى نفسه عندما يرسم. سنجد تصورات عبثية، ناتجة عن النقاش نفسه حول المدينة، وإن كان يعبّر عنه بطرق مختلفة، وأدوات بوسعها أن تكون أكثر طرافة من الباطون والمعدن والشمع والإسمنت. يرسم “محمد علي كلاي” بالباستيل على الورق، ويعترض على “مجتمع مدني”، كما يرسم “معادن وعظام”، من بين مجموعة كبيرة من الرسومات الموزعة في أحد جوانح المعرض. قد يشبه المعرض سيرةً فنية لصاحبه، لكن الأهم أنه يحاول المشاركة في سيرة المدينة الفنية والجغرافية. يستمر في التصويب على الأعمدة بفأس من الماء والهواء، لأن الأعمدة تفسخت بقسوة. لأنها نتأت خارج الجسد بعدما تمزق، ولأنه يجب إنقاذ المدينة بأي طريقة.